شهدت أغلب مناطق العالم خلال الأشهر الأخيرة، برغم اختلافات مناخاتها، حوادثَ خطيرةً، اعتبرها خبراء المناخ، نتيجة حتميّةً للتغيّرات المناخية التي يعرفها العالم أجمع، وحذّروا من الأسوأ في السنوات القادمة، إن لم تعمل الدول الصناعية الكبرى، بصفةٍ خاصةٍ، على التدخّل بكثيرٍ من المسؤولية، للتخفيف من انبعاثات مختلف أنشطتها الصناعية.

وشهدت منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، كغيرهما من مختلف مناطق العالم، حرائقَ وفيضاناتٍ مدمّرةً، ضربت حتى عديد الدول الأوروبية، وخلّفت خسائرَ كبيرةً في الأرواح والبُنية التحتيّة. مظاهرٌ غير مسبوقةٍ، منها الحرائق التي عرفتها كلّ من الجزائر، وسوريا، ولبنان، واليونان، وقبرص، وإيطاليا، إلى جانب الفيضانات التي ضربت دولًا أوروبيةً مثل ألمانيا، وسويسرا، وهولندا، وبلجيكا، وغيرها، فضلًا عن الجفاف ونُدرة المياه في دولٍ أخرى، والحرارة الاستثنائية التي عرفها العالم، بشماله وجنوبه، وخاصةً كندا، وأمريكا الشمالية، جميعها، مؤشراتٌ، يقول خبراء المناخ، إنها توحي بحدوث الأسوأ في السنوات القادمة، ما لم يستشعر السّياسيون الخطر، ويتحرّكون لاتّخاذ إجراءاتٍ إصلاحيةٍ، مثلما حصل سابقًا، مع ثقب الأوزون.

وقد أكّدت نشرة "غازات الاحتباس الحراري 2020"، التي تصدر عن برنامج المراقبة العالمية للغلاف الجوّيّ للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فضلًا عن تقرير حالة المناخ العالمي 2020، أنّ درجة الحرارة العالمية ستبلغ 1.5 درجةً مائويةً، أو أكثر في المتوسط، خلال السنوات العشرين المقبلة. 

 

قادة العالم يستشعرون الخطر الداهم

 

استشعر قادة العالم الخطر الذي يترصّد جميع دول العالم، دون استثناءٍ، من خلال مشاركة أكثر من 100 من قادة العالم في قمة غلاسكو، التي نظمتها بريطانيا قبل أيامٍ، وذلك بهدف التوقيع على اتّفاقٍ "تاريخيٍّ" لحماية الأرض من خلال حماية الغابات والمناطق الخضراء، وتحجيم الأنشطة الصناعية. 

وتأتي قمة "كوب26"، استمرارًا لقمة باريس 2015، والتي شهدت الاتفاق على الحدّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى أقلّ من درجتيْن، وحصرها في حدود 1.5 درجةٍ مائويةٍ.

وأكد خبراء المناخ أنّ درجة حرارة الأرض ارتفعت بقليلٍ عن الدرجة الواحدة، منذ بداية القرن الماضي، وهو ما جعل أغلب دول العالم، في الشمال والجنوب، تعيش موجاتٍ حرٍّ شديدةٍ، غير معتادةٍ، إلى جانب الفيضانات والعواصف المخيفة التي تسبب في خسائر فادحةٍ.

واعتبر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في كلمةٍ له خلال القمة، أنّ "الاستجابة لأزمة المناخ يجب أن يُنظر إليها على أنها فرصة لاقتصادات العالم"، لأنّ هذه الكارثة تمثل "نقطة تحوّلٍ في تاريخ العالم"، مشيرًا إلى أنه "وسط الكارثة المتنامية، أرى أنّ هناك فرصةٌ رائعةٌ، ليست فقط للولايات المتحدة، وإنّما لنا جميعًا".

ودعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى "رفع طموحاتنا من مؤتمر "كوب26""، خاصةً، وأنّ فرنسا، لم تفِ بالتزاماتها، بالرغم من أنّها تسجّل أكبر انبعاثاتٍ لثاني أكسيد الكربون.

وتعدّ دول الجنوب، ضحيّةً لعدم الإيفاء بتعهّدات دول الشمال، المسؤولة عن ارتفاع نسبة حرارة الأرض، فهي لم تلتزمْ بتخصيص 100 مليار دولار سنويًا، بدءًا من العام 2020، لمساعدة الدول النامية على خفض الانبعاثات، والمحافظة على الغابات، ودعمها، بعد أن تعهّدت بذلك منذ 2009. وتمّ تأجيل تنفيذ هذا التخصيص إلى 2023، وهو ما فاقم الأزمة.

 

تعهّداتٌ مهمّةٌ.. وتحدّياتٌ أهمُّ

 

تعهّد قادة أكثر من 120 دولة، يمثلون نحو 87% من غابات العالم، "بوقف إزالة الغابات، وعكس ذلك المسار بحلول عام 2030".

ووافقت أكثر من 100 دولةٍ، من بينها الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، على التخفيض من انبعاثات الغازات المسبّبة في الاحتباس الحراري بحلول عام 2030. كما تعهّدت أكثر الدول المستخدمة للفحم، مثل بولندا، وفيتنام، وشيلي، بالتوقف عن استعمال الفحم، المتسبب الرئيسي في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون.

وأبدت أكثر من 500 شركة خدماتٍ ماليةٍ عالميةٍ، على أن تخضع ميزانياتها، المقدرة بنحو 130 تريليون دولار، ما يقدّر تقريبًا بنحو 40% من الأصول المالية العالمية، لكي توائم أهداف اتفاق باريس 2015، وهو ما سيساهم في الحدّ من التخفيض من درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مائوية بحلول العام 2030.

كما أعلنت الولايات المتحدة والصين، في بيانٍ مشتركٍ، اتّفاقهما بشأن انبعاث غاز الميثان، وبالتالي التعهّد بالانتقال إلى الطاقة النظيفة وإزالة الكربون، مع تجديد التأكيد على التعهّد بتحقيق هدف 1.5 درجة مائوية، وفق اتفاق مؤتمر باريس 2015.

ووقعت أكثر من 100 شركات كبرى، وحكوماتٍ، على وقف بيع محركات الاحتراق الداخلي في الأسواق الرائدة بحلول العام 2035، وحول العالم في 2040، فيما يتعلق بتسويق سياراتٍ وشاحناتٍ صغيرةٍ عديمة الانبعاثات، والبحث عن حلولٍ أخرى.

وتعهّدت 13 دولةً بإنهاء بيع المركبات الثقيلة التي تعمل بالوقود الأحفوري بحلول عام 2040. كما التزمت 11 دولةً، من بينها فرنسا، وإيرلندا، والدنمارك، بتحديد موعدٍ نهائيٍّ لوقف التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما، فيما عرف بـ "تحالف ما وراء النفط والغاز".

 

مصالحٌ وتناقضاتٌ وإرادةٌ سياسيةٌ متردّدةٌ

 

تمخّض مؤتمر "كوب 26" إلى اتّفاقٍ اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة "غير كافٍ" وذلك "انعكاسًا للمصالح والتناقضات وحالة الإرادة السياسية في عالم اليوم".

وقال غوتيريش، إنها: "خطوةٌ مهمّةٌ، ولكنها ليست كافيةً، لذلك يجب علينا تسريع العمل المناخي بهدف الإبقاء على الهدف المتمثل في الحدّ من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى حدود 1.5 درجة مئوية"، مضيفًا "حان الوقت للانتقال إلى وضع الطوارئ، وإنهاء دعم الوقود الأحفوري، والتخلّص التّدريجي من الفحم، وتحديد سعر الكربون، وحماية المجتمعات الضعيفة، والوفاء بالتزام تمويل المناخ بقيمة 100 مليار دولار"، معتبرًا أنه "لم نحقّق هذه الأهداف في هذا المؤتمر، ولكن لدينا بعض اللبنات الأساسية اللازمة للتقدم".

ودعت الوثيقة الختامية لمؤتمر "كوب 26" التي أمضت عليها 197 دولةً، إلى "الخفض التّدريجي لاستخدام الفحم".

ورغم بعض الأمل، فإنّ مسؤولي بعض الدول شعروا بالإحباط، حتى أنّ كبير مفاوضي "جزر المالديف" اعتبر أنها "خطوةٌ تدريجيةٌ إلى الأمام، ولكنها لا تتماشى مع التقدم المطلوب. سيكون متأخرًا جدًا بالنسبة لجزر المالديف"، مشدّدًا على أنّ "هذه الصفقة لا تبث الأمل في قلوبنا".

وفي المقابل، رأى المبعوث الأميركي الخاص لشؤون المناخ، "جون كيري"، أنّ النص الختاميّ للمؤتمر يمثل "بيانًا قويًا"، مؤكدًا أنّ بلاده "ستشارك، بشكلٍ بنّاءٍ، في إدارة حوارٍ حول الخسائر والأضرار، والتكيّف، وهما من أصعب القضايا التي يجب أن تتفق عليها الدول".

 

تحدّياتٌ كبرى أمام البشرية

 

تؤكد الدكتورة نعمة زهران، في تقريرٍ نشره "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" على التداعيات المناخية الخطيرة التي تواجهها اقتصادات العالم، من زراعةٍ، وموارد مائيةٍ، وصحّة البشر، خاصةً في ظلّ عدم التزام الحكومات باتفاقية مؤتمر باريس 2015، مشيرةً إلى أنّ من بين التداعيات "ندرة الموارد المائية وزيادة موجات الجفاف"، فتغيّر المناخ، قد يزيد من انخفاض تدفق المجاري المائية بحوالي 10 إلى 30% في عديد البلدان التي تعاني من شحٍّ وندرةٍ في المياه، إلى جانب تأثيراتٍ أخرى، و"تضييق الأراضي المأهولة" وذلك بسبب ارتفاع معدل حدوث الانهيارات الأرضية الناجمة عن شدة هطول الأمطار، إلى جانب ازدياد معدل حدوث الفيضانات بالمستوطنات القائمة على ضفاف الأنهار، وهو ما يتسبب في خسائر بعشرات المليارات من الدولارات، خاصةً مع التوسّع العمراني المهول في المناطق الساحلية.

وتحدثت عن "ارتفاع أسعار الغذاء"، لأنّ ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي حتمًا إلى تغيّر التركيب المحصولي، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأغذية، كنتيجةٍ لتباطؤ زيادة الإمدادات الغذائية العالمية، بسبب زيادة الطلب العالمي عليها. واعتبرت أنّ هذا الأمر "ازداد سوءًا" بسبب جائحة كورونا "التي أثرت سلبًا على سلاسل الإمداد العالمية للغذاء"، وتشير إلى "اختلال الخريطة السياحية" كإحدى التداعيات المناخية الخطيرة، حيث سيتسبّب ارتفاع درجة الحرارة في تراجعٍ شديدٍ في مؤشر التصنيفات السياحية للعديد من الوجهات السياحية، حيث سيؤثر تآكل الشواطئ وارتفاع مستويات البحار على المراكز السياحية الشاطئية، وبالدرجة الأولى في مصر، وتونس، والمغرب، وسوريا، والأردن، ولبنان، التي تمثل السياحة في هذه الدول مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة. وكذلك "اختلال النظام وانتقال الأوبئة"، حيث يرجّح أن تتعرض بعض أنواع النباتات والحيوانات لخطر الانقراض بنسبة 20 -30٪ تقريبًا إذا استمر ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمي، من المتوقع انقراض العديد من النباتات والحيوانات، وما يتبعه من آثارٍ ماديةٍ نتيجةً لتأثر الأنشطة الاقتصادية مثل السياحة والصيد والزراعة، واتساع المدى الجغرافي لانتشار الأمراض المعدية، وما يترتّب عليه من تأثيراتٍ ضارةٍ على صحة الإنسان، خاصةً في القارة الأفريقية. 


إستراتيجياتٌ من أجل التنمية المستدامة


طالب غوتيريش الدول الغنية، والبنوك العالمية للتنمية بدعم الدول الفقيرة، وضخّ مزيدٍ من الأموال للتكيّف مع تغيّر المناخ، مذكّرًا بضرورة إيفاء الدول الغنية بتعهّداتها السابقة بجمع 100 مليار دولار سنويًا.

وكان وزير التنمية الألماني، "غيرد مولد"، دعا الاتحاد الأوروبي إلى دعم الدول الفقيرة في إطار حماية المناخ. وأضاف مولر، في تصريحٍ أوردته "دوتشيفيله"، أنّ "8 دولٍ فقط من أصل 191 دولة موقّعة على اتفاق باريس 2015، حققت أهداف اتفاقية باريس للمناخ"، مضيفًا "نحن بحاجةٍ إلى صفقةٍ خضراءَ عالميةٍ، وذلك باستثماراتٍ خاصةٍ ضخمةٍ لتوسيع الطاقة المتجددة، وكذلك نقل التكنولوجيا، وحملة استثماراتٍ من قبل الدول الصناعية في البلدان الناشئة والنامية".

وشدّد الوزير الألماني على أنّ البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنوك التنمية، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، "مطالبون بالمساهمة في ذلك"، مؤكدًا على أنّ "المئات من محطات الطاقة الجديدة التي تعمل بالفحم يتمّ بناؤها، أو التخطيط لها في جميع أنحاء العالم"، مبيّنًا أنّ "هذه الانبعاثات الإضافية من ثاني أكسيد الكربون الإضافي لا يمكننا التخلّص منها في الاتحاد الأوروبي على الإطلاق، فإذا جرى تشغيل هذه المحطات القاتلة للمناخ، فلن نحقق أهداف اتفاقية باريس أبدًا".

وترى الدكتورة نعمة زهران، أنّ أهم مرتكزات إستراتيجيات التعامل مع التغيرات المناخية، تتمثل في "دفع  العالم إلى التحوّل إلى اقتصاد من نوعٍ جديدٍ، يعتمد على موارد جديدةٍ للطاقة النظيفة، وتكنولوجيا جديدةٍ في الصناعة (الثورة الصناعية الرابعة)، وممارساتٍ مختلفةٍ في الاستهلاك والحياة، وتوجّهٍ أكبرَ نحو الاقتصاديْن الأخضر والأزرق، إلى جانب الالتزام بسياسات التكيّف والتّخفيف، وذلك للتخفيض من الانبعاثات الغازية، وهو ما يؤدّي إلى "تقليل مخاطر المناخ في المستقبل"، و"المساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة" .