قد تكون اللحظة التي تمر بها حركة حماس اليوم من أصعب المحطات في تاريخها، لا من حيث شدة القصف الإسرائيلي أو تراجع الدعم الإقليمي فقط، بل لأنها تُجبر للمرة الأولى على مواجهة سؤال وجودي: هل ما زالت قادرة على تمثيل الفلسطينيين بوصفهم "ذاتًا سياسية متكلّمة"، لها مشروع واضح، وخطاب سياسي محدّد، وآليات تفاوض تُعيد للقضية مركزيتها؟ أم أنها تغرق في ضجيج الأيديولوجيا والمواجهة المفتوحة، دون أفق حقيقي للانتصار أو البناء؟
الحرب التي اندلعت منذ 7 أكتوبر وامتدّت لتُحرّك خيوطًا إقليمية ودولية كبرى، كشفت هشاشة الواقع الفلسطيني الداخلي أكثر مما كشفت صلابة ما يُسمى بـ"محور المقاومة". فقد وُضعت غزة، بكل ما تمثله، في قلب معركة أكبر منها، بينما بقيت سلطة رام الله على الهامش، والعالم يفتّش عن عنوان سياسي فلسطيني يمكن التفاوض معه.
استعادة إسرائيل لجثامين رهائن من القطاع، وسط انهيار المنظومة الإنسانية وتزايد الضغط الداخلي، هي تفاصيل ميدانية تعكس أزمة أعمق: لم تعد حماس تملك السيطرة الكاملة على ما كان يومًا ورقة تفاوضية بامتياز، ولا تملك أيضًا قدرة حقيقية على فرض شروط سياسية في لحظة دولية لا تتقبّل سوى الخطابات القابلة للتنفيذ، لا الشعارات العابرة للحدود.
لكن الأخطر من ذلك، هو أن حماس – وربما دون قصد – تُسهم في تعميق فكرة "غياب الفلسطيني المتكلّم"، تلك الفكرة التي يتحدث عنها كتّاب ومفكرون عرب، حين تتحوّل القضية الفلسطينية إلى شعار يُرفع من قبل "الأمة"، أو إلى رمز يُعاد إنتاجه داخل قوالب أيديولوجية غربية، دون أن يكون للفلسطينيين أنفسهم، كجماعة سياسية، صوت واضح ومشروع قابل للتطبيق.
في هذا السياق، لا تعود الدعوة إلى التفاوض مجرد خيار تكتيكي، بل ضرورة لإعادة تشكيل الذات الفلسطينية الفاعلة. توقيع اتفاق لا يعني نهاية المقاومة، كما لا يعني القبول بالرواية الإسرائيلية، بل قد يكون الخطوة الأولى لاستعادة قدرة الفلسطينيين على "التكلّم" بلغتهم السياسية الخاصة، لا بلغة الآخرين عنهم.
المنطقة تتغيّر. الحلفاء يعيدون حساباتهم. والجمهور الفلسطيني، في الداخل والشتات، يتساءل: إلى أين؟ والجواب لم يعد يُقنعه من فوق المنصات أو عبر شاشات البيانات المسجّلة.
حماس اليوم أمام خيارين: إما أن تستمر في إدارة معركة لا تملك مفاتيحها الإقليمية والدولية، أو أن تبادر بخطوة شجاعة تعيد تعريف موقعها السياسي، وتمنح الفلسطينيين فرصة لإعادة امتلاك خطابهم، قبل أن يتحوّلوا إلى "سكان محليين" في نظر العالم، بلا صوت، ولا مشروع، ولا أفق.