بينما تتقدم واشنطن بخطوات متسارعة لتنفيذ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في غزة، وتتهيأ قوة دولية للدخول إلى القطاع بموجب قرار مجلس الأمن، تجد حركة حماس نفسها أمام مفترق تاريخي لا يمكن تجاهله:
إما التحول إلى حزب سياسي، أو مواجهة خطر الإقصاء الكامل من المشهد الفلسطيني بعد حربٍ دفع الغزيون ثمنها بأرواحهم وبيوتهم ومستقبلهم.
وفي ظل موافقة الدول العربية على خارطة الطريق التي تنقل إدارة القطاع إلى لجنة تكنوقراط مستقلة تابعة للسلطة الفلسطينية، يزداد الضغط على الحركة التي لم تعد قادرة — سياسيًا أو إداريًا أو شعبيًا — على تكرار نموذج الحكم القديم، أو جرّ القطاع إلى حرب جديدة لم يعد سكان غزة قادرين على تحملها بعد الكلفة الهائلة التي تكبدوها خلال العامين الماضيين.
مشروع إنهاء حكم حماس
منذ بداية الحرب، أعلنت إسرائيل أن هدفها هو إسقاط حكم حماس ونزع قدراتها العسكرية. وتنسجم هذه الرؤية مع بنود الخطة الأميركية التي تدعو إلى إنهاء سيطرة الحركة على غزة وفتح الطريق أمام إدارة مدنية جديدة.
ومع فشل محاولاتها المناورة — سواء بالبقاء كجسم مسلّح أو بطرح ترتيبات متدرجة — بدأت الحركة أخيرًا تدرس خيارًا لم يكن مطروحًا قبل الحرب:
أن تصبح حماس حزبًا سياسيًا بلا جناح عسكري.
حرب أنهكت الجميع… والشعارات لم تعد تكفي
اليوم، وبعد آلاف الشهداء والمصابين ومئات آلاف المشردين، يعرف الغزيون جيدًا أن الحرب لم تحقق لهم شيئًا سوى الخراب.
ومع ازدياد مستويات الجوع، وانهيار البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية، بات الشارع الغزي يرفض أي سيناريو يؤدي إلى عودة القتال.
فالناس في غزة دفعوا الثمن الأكبر:
بيوت دُمّرت، مدارس سُوّيت بالأرض، مستشفيات خرجت عن الخدمة، واقتصاد انهار بالكامل.
والسؤال الذي يتردد اليوم في الشوارع هو:
من يستطيع أن يتحمل حربًا أخرى؟
إجماع فلسطيني محرج لحماس
خلال اجتماع الفصائل الأخير، اتفقت القوى الفلسطينية — المنهكة بالكامل — على منع عودة الحرب، وتسليم إدارة القطاع إلى لجنة تكنوقراط محايدة. هذا الإجماع وضع حماس في زاوية ضيقة، ودفعها إلى تشكيل لجنة فنية لتجهيز انتقال السلطة وتصفير الاحتكاكات الميدانية.
وبحسب المحلل السياسي الفلسطيني حسن سوالمة فقد ساهم انتقال الثقل القيادي للحركة إلى الخارج — بعد مقتل معظم قادة غزة — في فتح الباب أمام هذا التغيير. فالقرار اليوم بيد قيادة المكتب السياسي في الخارج، خاصة في الدوحة، وهي بيئة أكثر قابلية للنقاش السياسي بعيدًا من ضغط الميدان والسلاح.
وكان خليل الحية، رئيس المكتب السياسي بالإنابة، قد صرح في وقت سابق إن الحركة "لا تطمح لحكم غزة" ومستعدة للتحول إلى حزب سياسي، بما ينسجم مع الورقة العربية المدعومة سعودياً.
من “المقاومة” إلى مراجعة شاملة
غير أن التحول لا يتعلق فقط بالقرار السياسي، بل أيضاً بالمراجعة العميقة لمفهوم المقاومة في الوعي الفلسطيني المعاصر.
فالحرب الأخيرة كشفت خللاً جوهرياً:
تحوّل المقاومة من وسيلة لتحقيق الحرية إلى غاية بحد ذاتها، مهما كان الثمن.
وهو ما أدى إلى تهميش صوت الشعب، الذي أصبح الوقود الدائم للمعارك دون أن يلمس أي مكسب سياسي حقيقي أو تحسن في الوضع المعيشي الذي تقهقر سنوات للوراء.
ويقول محللون إن قطاع غزة أصبح اليوم مثالاً صارخاً على ما يحدث حين تتحول المقاومة إلى شعار منفصل عن حياة الناس:
دمار بلا أفق، وفقر بلا نهاية، وصمود بلا جدوى.
وأمام هذا الواقع، لا يبدو أن الفلسطينيين في غزة منسجمين مع الشعارات أو “الرموز الثورية”، بل يبحثون عن:
سقف آمن يحمي عائلاتهم، مدرسة تعود للعمل، مستشفى يمكن الاعتماد عليه،وقطاع يعيش بلا حرب كل عدة أشهر.
وفي هذا السياق، يصبح سؤال المستقبل جوهرياً:
هل تتحول حماس إلى حزب سياسي قادر على العمل داخل النظام الفلسطيني؟
أم أن الخريطة الجديدة التي ترسمها واشنطن والدول العربية ستتجاوزها بالكامل؟
حين تُطوى صفحة الحرب، سيكتشف الفلسطينيون أن غزة لم تكن مجرد ميدان قتال، بل اختبارًا لطبيعة المشروع الوطني نفسه ومدى ارتباطه من عدم بمشروعي فلسطيني حقيقي بعيدا عن الرهانات الاقليمية.
وأن النضال لا يُقاس بعدد الصواريخ أو الأنفاق، بل بقدرة الفلسطيني على البقاء حيًا وبكرامة، وبقدرة قيادته على بناء مستقبل لا يبدأ بمآسي جديدة.








