ماذا بقي من ثورات الربيع العربي؟، سؤالٌ، كثيرًا ما يطرح بعد عشر سنواتٍ من شرارة ثورة الياسمين في تونس، ومن بعدها مصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، والسودان..

انطلقت ثورات الربيع العربي في ديسمبر/كانون الأول 2010 من مدينة سيدي بوزيد، وسط غرب تونس، عندما أحرق بائع الخضر والغلال، محمد البوعزيزي، نفسه، بعد أن تمّ الاعتداء عليه، وافتكاك عربته بما تحمله. ولم تتوقف الاحتجاجات في مختلف المدن التونسية إلا بعد أن هرب الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية، في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011.

وألهمت الثورة التونسية، الشباب العربي في مصر وليبيا واليمن وسوريا، ثم السودان، لتسقط أنظمةٌ استبداديةٌ قائمةٌ، وتُستبدل بأنظمةٍ أخرى، لم تحقق أهداف الشباب الذي ثار في كل مكانٍ، واستشهد من أجل الكرامة والخبز.

صحيح أنّ الثورات العربية، وخاصةً في تونس، حققت جزءًا من أهدافها، المتمثّل في الحرية، حرية التعبير، والتنظّم الحزبيّ والمدنيّ، ولكنها لم تستطع خلق الثروة، والعدالة الاجتماعية، التي حلم بها الشباب العربي عندما احتجّ على استبداد الأنظمة القائمة. 

وحاولت الحكومات في دول الربيع العربي ما بعد 2011 "تسريع الإصلاحات والإجراءات المساعدة على التشغيل ومحاربة الفساد ومقاومة الفقر وإعطاء الأولوية للجهات الأقل حظًّا والحدّ من غلاء المعيشة."، إلا أنها اصطدمت بواقعٍ مريرٍ يتطلّب "إعادة البناء"، خاصةً وأنّ"المسار الديمقراطي ليس طريقًا خطيًّا أو فعلًا آنيًّا، ولكنه فعلٌ معقّدٌ وغيرُ مضمونِ المحصّلات والنتائج مسبقًا، مثلما أثبت التاريخ ذلك في أكثر من موقعٍ ومناسبةٍ".

وراكمت السنوات العشر الأخيرة الخيبات تلو الخيبات في كلّ ما يتعلق بآمال مشروعةٍ في التشغيل والتنمية وفرحة الحياة، فتفشّت مشاعر الإحباط واستعادت القوى المعادية للثورة ثقتها في نفسها، بفعل تخلّي الدولة عن واجباتها الاجتماعية.

اليوم، وقد مرّت عشر سنواتٍ على اندلاع ثورات الربيع العربي، يجدر بنا طرح السؤال: ماذا بقي من ثورات الربيع العربي التي اختلف في تقييمها الباحثون، والمحلّلون السياسيون؟، وماذا حققت؟.

 

انهيار اقتصاديٌّ و15 مليون لاجئٍ 

 

تكبّدت بلدان الربيع العربي، جميعها، خسائر ماديةً كبيرةً، اقتصاديةً، واجتماعيةً، بسبب الأوضاع المتأزمة التي كانت وراء عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي، وبالتالي ارتفعت نسب البطالة، وخاصةً بين الشباب، وارتفعت نسبة الديون، حتى أنّ تقريرًا حول "تكلفة الربيع العربي"، أعدّه "المنتدى الإستراتيجي العربي" كشف أنّ الخسائر المترتّبة عن ثورات الربيع العربي قاربت 850 مليار دولارٍ.

وفي تقرير نشره "المنتدى الاستراتيجي العربي" بداية 2018، تحت عنوان "تكلفة الربيع العربي" ، أكد أنّ "الثمن الاقتصادي الذي دفعته الشعوب العربية التي انتفضت ضد أنظمتها الحاكمة، بلغ 833.7 مليار دولار، في أواخر 2016، شاملةً تكلفة إعادة البناء وخسائر الناتج المحلي والسياحة وتكلفة اللاجئين وخسائر أسواق الأسهم والاستثمارات".

وأضاف التقرير أنّ التكلفة التي تكبدها العالم العربي بين عامي 2010 و2014 بلغت نحو 833.7 مليار دولارٍ أمريكيٍّ، بالإضافة إلى 1.34 مليون قتيلٍ وجريحٍ بسبب الحروب والعمليات الإرهابية، وبلغ حجم الضرر في البنية التحتية ما يعادل 461 مليار دولار أمريكي، فضلًا عمّا لحق من أضرارٍ وتدميرٍ للمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمنٍ.
وبلغت الخسارة التراكمية الناجمة عن الناتج المحلي الإجمالي الذي كان بالإمكان تحقيقه 289 مليار دولار أمريكي، عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي نسبةً إلى سعر صرف العملات المحلية.

كما بلغت خسائر أسواق الأسهم والاستثمارات أكثر من 35 مليار دولار، حيث خسرت الأسواق المالية 18.3 مليار دولار أمريكي، وتقلّص الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار، وفق ذات التقرير.

وأوضح التقرير أنّ عدم الاستقرار، والعمليات الإرهابية، ساهمت في تراجعٍ كبيرٍ لعدد السياح بلغ 103.4 مليون سائحٍ، مقارنةً بما كان متوقّعًا خلال تلك السنوات في دول الربيع العربي، والتي ساهمت أيضًا في تشريد أكثر من 14 مليون و389 ألف لاجئٍ، بتكلفةٍ بلغت 48.7 مليار دولار.

وكشف تقريرٌ للأمم المتحدة نشر في 2016، أنّ الخسائر الاقتصادية التي نجمت عن ثورات الربيع العربي بلغت أكثر من 600 مليار دولارٍ.

وبلغت خسائر المنطقة العربية في سنوات الفوضى وعدم الاستقرار في بلدان الربيع العربي، 613.8 مليار دولارٍ من تعاملاتها الاقتصادية، أي نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من 2011 إلى 2015.

وفي سوريا، بلغت الخسائر الاقتصادية في السنوات السبع الأولى من الحرب والدمار، أكثر من 260 مليار دولارٍ.

 

هل مازالت تونس قصة نجاحٍ؟

 

يؤكد المؤرخ التونسي عبداللطيف الحناشي، على "عدم قدرة النّخب التي حكمت فترة ما بعد الثورة على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يرتبط بعدم وجود رؤيةٍ واضحةٍ ذات بعد إستراتيجي".

ويضيف الحناشي أنّ الصراع السّياسي والتجاذبات السّياسية لم تكن على برامج اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، بل في كثيرٍ من الأحيان، على قضايا سياسويّةٍ وحزبيةٍ ضيقةٍ، وهو ما عطّل الكثير من المشاريع برغم أنّ هذه الأحزاب قد قدمت في برامجها السياسية، قبل الانتخابات، وعودًا كبيرةً، لكنها لم تتمكّن من تحقيق الحدّ الأدنى منها، ولذلك نلاحظ أنّ البطالة قد ارتفعت، وخاصة عند الشباب، من أصحاب الشهادات العليا، كما تضاعفت نسب الفقر.

وخطت تونس خطواتٍ هادفةً وبنّاءةً نحو الحكم الديمقراطي من خلال الانتخابات الوطنية والمحلية التي وصفت بالنزاهة والشفافية، محليًا ودوليًا، والتي اتّسمت بالتداول السلمي للسلطة، بحسب تقرير نشره "معهد واشنطن" في يناير الماضي. 

وخلال السنوات العشر الأخيرة، انبثق   مجتمعٌ مدنيٌّ حيويٌّ وفعّالٌ، فعلب دورًا مهمًّا في تعزيز الشفافية والفعالية في المؤسسات والعمليات السياسية الناشئة.

وفاز "الرباعي الراعي للحوار الوطني" في 2015 بجائزة نوبل للسلام لمساعدتها على وضع خارطةٍ طريق للانتقال السياسي السلمي في وقت كانت فيه تونس على مشارف حربٍ أهليةٍ. 

وقالت منظمة "فريدوم هاوس" الأمريكية، في تقريرٍ حول "الحرية في العالم" للعام 2020، إنّ تونس "هي الدولة الحرّة الوحيدة في العالم العربي.

وأبدى المجتمع الدولي تحمّسًا للخطوات التي اتخذتها تونس لحماية حقوق المرأة وتعزيزها خلال العقد الماضي. وتميزت تونس عن الدول العربية الأخرى في دعمها لحقوق المرأة. وحدّد قانون الانتخابات أطر الانتخابات التشريعية ضمن التكافؤ العمودي في قوائم المرشحين، أي تناوب الرجال والنساء على القوائم الانتخابية، وهو ما ساهم في ظهور أعدادٍ متساويةٍ من النساء والرجال على القوائم الانتخابية.

وأقرّت تونس في 2017، قانونًا شاملًا للقضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة.

لكن هذا التقدّم الملحوظ على مستوى التشريعات، والحقوق والحريات، لم يواكبه انفراجٌ في الجانب الاجتماعي، وتقلّصت نسبة التفاؤل أمام ارتفاع الأسعار، ونسب الفقر، والجريمة، والفساد، وفق ذات التقرير.

وفي استطلاع وطنيٍّ أجراه "المعهد الجمهوري الدولي"، في نهاية العام 2020، بيّن أنّ 87% من التونسيين يعتبرون أنّ تونس تسير في الاتجاه الخاطئ.

 

فشل ذريعٌ للنّخب العربية

 

بقيت أحلام "الثّوّار" في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، والسودان، وغيرها، تراوح مكانها لعوامل عديدةٍ أهمّها عدم أهلية النخب العربية التي حكمت ما بعد الثورات العربية، وعدم قدرتها على تلبية شعاراتٍ رُفعت في جميع الاحتجاجات، أهمّها "شغل، حرية، كرامة وطنية". 

وعزا الباحث محمد أحمد بنّيس، الإخفاق الحاصل إلى "السّلطوية المترسّبة في بنية المجتمعات العربية، والتي تغذّي الانقسام في غير قضيةٍ وشأنٍ. ويتعلق الأمر بثقافةٍ سياسيةٍ سلطويةٍ تخترق الاجتماع السياسي العربي، وتعيد إنتاجه بشكلٍ يُصبح معه إحداث تغييرٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ أمرًا في غاية الصعوبة. ولا فرق في ذلك بين الدولة الوطنية التي وصلت إلى الإفلاس التّام، والمعارضة بكل أطيافها اليسارية والعلمانية والإسلامية".

واعتبر أنّ هذه السّلطوية "هي التي منحت حركة الإخوان المسلمين في مصر شعورًا زائفًا بالغلبة في مواجهة القوى المدنية والثورية التي كانت عصب ثورة 25 يناير. وقد ساعد النزوع المتواتر للحركة نحو الاستئثار بالسّلطة على إيجاد حالة تشنجٍ مجتمعيّةٍ، سرعان ما استثمرتها قوى النظام القديم، لتعيد بناء حساباتها في ضوء هذا الانقسام غير المسبوق الذي عرفه المجتمع المصري خلال سنتي 2012 و2013".

وأظهرت خبرة الربيع العربي دور الانقسام المجتمعي في إجهاض التحوّل نحو الديمقراطية. ولم يكن هذا الانقسام، فقط، على المستوى الأفقي من خلال التّقاطب الفكري والحزبي الذي طبع التدافع الذي واكب الاحتجاجات، بل كان، أيضا، على المستوى العمودي.

ويشير بنيّس إلى أنه، حتى التجربة التونسية التي نجحت، نسبيًا، في تجنّب هذا الانقسام طوال السنوات المنصرمة باتت مهدّدةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، في مسعًى لخلط الأوراق، باختلاق صراعاتٍ جديدةٍ .