كتب الصحفي أسامة قدوس
لا تُقاس المواقف السياسية بما ترفعه من شعارات وتطلعات، بل بما تُخلّفه من نتائج على أرض الواقع. وفي السياق الفلسطيني، يبرز تناقض صارخ وجلي بين خطاب يدّعي الدفاع عن الشعب وقضيته، وممارسات سياسية وعسكرية تُنتج كلفة إنسانية متكرّرة وباهظة يدفع ثمنها أولًا المدنيون العزّل.
هذا التناقض لا يقتصر على فصيل بعينه، بل يمتد ليشمل منظومة أوسع من الفاعلين: فصائل، دول، إعلام، ونخب تتقاسم جميعها خطاب “الانحياز للقضية”، وتتخلّف عن تحمّل المسؤولية بعد انكشاف تبعات ومآلات هذا التوجه.
بين خطاب المقاومة ومنطق الدولة
حين أدان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، منذ تولّيه رئاسة السلطة الفلسطينية، كل العمليات التي تستهدف المدنيين من الطرفين، وأصرّ على موقفه المتمسّك بالمسار القانوني والسياسي، واجه سيلًا من الاتهامات “بالتفريط في القضية” والخضوع للقوى الاستعمارية من نخب وقوى محلية وإقليمية.
غير أن المفارقة أن ذات النخب التي رفعت، لسنوات، خطابًا أكثر حدّة وأعلى سقفًا، غابت عن الساحة بعد الرد القطري على انتهاك سيادتها من الطيران الإسرائيلي.
فحين تعرّضت قطر لضغط أمني مباشر، لم تلجأ إلى تصعيد عسكري أو إلى تحويل أراضيها إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بل انحازت فورًا إلى منطق الدولة: حماية الداخل، خفض المخاطر، وضبط الإيقاع السياسي.
لم يكن هذا خيارًا أخلاقيًا بقدر ما كان خيارًا براغماتيًا وجوديًا. فالدولة الحديثة، عند لحظة الخطر، تُعيد ترتيب أولوياتها وفق قاعدة بسيطة: بقاء الكيان مُقدَّم على الشعارات الثورية الرنّانة.
المقاومة حين تُدار من خارج كلفة الدم
تكمن الإشكالية الأعمق حين يُدار خطاب “المقاومة” من مساحات لا تدفع ثمنه المباشر، أو لا تهتم بذلك في أسوأ الأحوال. فالدعوة إلى التصعيد، ورفض أي مقاربة تفاوضية، تبدو أكثر “واقعية” حين لا تكون البيوت المستهدفة، ولا الأطفال تحت الأنقاض، ولا البنية الاجتماعية المدمّرة ضمن المعادلة اليومية لصانع القرار.
في هذا السياق، تبدو حماس كورقة رمزية أكثر منها فاعلًا قادرًا على حماية المجتمع الذي يتحرّك باسمه. ويُعاد إنتاج معادلة خطيرة: قرار عالي المخاطر، مقابل كلفة بشرية مؤجَّلة… لكنها حتمية.
الدبلوماسية كخيانة… أم كمسؤولية؟
يُصوَّر اللجوء إلى القانون الدولي، أو المطالبة بوقف الحرب عبر تسويات، كتنازل عن “جوهر القضية”. غير أن هذا التصوير يتجاهل سؤالًا جوهريًا: هل حماية المدنيين خيانة؟ أم أن الإصرار على خطاب لا يملك أدوات حماية هو الخيانة الحقيقية؟
ما يُسمّى “الدبلوماسية الباردة” ليس بالضرورة تعبيرًا عن ضعف، بل قد يكون اعترافًا بحدود القوة، وبأن السياسة ليست ساحة لتطهير الضمير، بل لإدارة الخسائر بأقل كلفة ممكنة.
اللافت أن الجهات الأكثر حدّة في خطابها ضد أي مقاربة واقعية، هي غالبًا الأقل استعدادًا لتحمّل نتائج هذا الخطاب. فبعد دمار غزة بشكل شبه كامل، وتهجير سكانها، ومقتل آلاف الأبرياء، لا تبدو حماس مستعدّة لتحمّل أي مسؤولية، أو للتعبير عن استعدادها للقيام بمراجعة داخلية معمّقة.
هنا يتحوّل “الدفاع عن الفلسطينيين” إلى رأسمال رمزي، يُستثمر إعلاميًا وأيديولوجيًا، بينما يبقى الفلسطيني وحده في مواجهة النتائج المأساوية على الأرض.







