في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، استضافت باريس مؤتمرًا دوليًا لدعم واستقرار ليبيا التيلازلت تبحث عن استقرارها السياسي  منذ اندلاع الثورة الليبية في السابع عشر من فبراير 2011.

ولئن شهد المؤتمر الذي تنظمه الأمم المتحدة بالاشتراك مع كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا، مشاركةً دوليةً، تمثلت في حضور زعماء من 20 دولةٍ، مع حضورٍ لافتٍ لنائبة الرئيس الأمريكي،  "كامالا هاريس"، والمستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، إلى جانب رئيس الوزراء الإيطالي "ماريو دراجي".

تقول الأمم المتحدة إنّ المؤتمر ركّز على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المزمع إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول المقبل، ويؤكد وزير الخارجية الفرنسي، "جان إيفل ودريان" على أنّ المؤتمر يهدف إلى "تقديم الدعم للانتخابات الرئاسية المقررة يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر القادم، بالإضافة إلى البدء بخطوات سحب القوات الأجنبية، وقوات المرتزقة من البلاد وإنهاء التدخلات الخارجية"، وهي من أصعب نقاط الخلاف، التي تتفق حولها "المصالح اللّيبية، مع المصالح الأمنية لمناطق الجوار، من منطقة السّاحل إلى شمال أفريقيا، وحتى أوروبا".

وبالرغم من أنها لم تلعب دور الوسيط، طوال السنوات الأخيرة للأزمة الليبية، أساسًا، فإنّ فرنسا تستحثّ الخطى، قبل نحو شهرٍ من الانتخابات، بهدف استعادة مكانتها في الأزمة الليبية كلاعبٍ رئيسيٍّ، خاصةً وأنها شاركت في صنع أحداثٍ عديدةٍ في منطقة الساحل والصحراء الكبرى الإفريقية، منذ 2014، لمحاربة "الجهاديين"، قبل أن تقرّر التخلّي عن هذا الدور، الصائفة الماضية، وتسحب قوّة "البرخان" المتمركزة في مالي.  

فهل يحقق مؤتمر فرنسا حول ليبيا أهدافه، في ظلّ وضعٍ متحرّكٍ، في الغرب والشرق الليبييْن برغم الاستقرار النسبي الذي شهدته ليبيا منذ ربيع 2020 ؟، وهل سيساهم فعلًا في بلوغ اتّفاقٍ كاملٍ بين الليبيين حول أهمية إجراء الانتخابات في موعدها، أم أنه ليس سوى مؤامرةٍ دوليةٍ جديدةٍ بهدف السيطرة على ليبيا؟. 


تركيا وروسيا والمشاركة الباهتة

 

جاءت مشاركة كلٍّ من تركيا وروسيا باهتةً في مؤتمر باريس حول ليبيا، وذلك خشية من أن تعمل فرنسا على "تسريع وتيرة رحيل القوات التركية من ليبيا".

وبالرغم من أنّ الليبيين متّفقون على إخراج المرتزقة، والقوات الأجنبية من ليبيا، إلا أنّ تركيا التي تحفّظت على البيان الختامي للمؤتمر، تصرّ على أنّ قواتها موجودة في ليبيا بعد اتّفاقٍ مع حكومةٍ تعترف بها الأمم المتحدة، وتشدّد على أنّ الفرق بين قواتها الحالية في ليبيا، وبين القوات الأجنبية التي جلبتها فصائل ومجموعاتٌ ليبيّةٌ أخرى. 

وكشفت الأمم المتحدة عن وجود ما لا يقلّ عن 20 ألف مقاتلٍ أجنبيّ، بين قواتٍ رسميةٍ، ومرتزقةٍ، على غرار مجموعة "فاغنر" الروسية، التي توجد في الشرق الليبي، المدعوم من روسيا، ودولٌ أخرى.

ولم يستبعدْ محلّلون سياسيون اتّخاذ أنقرة أيّ إجراءٍ قبل خروج القوات الأجنبية من الشرق الليبي، بحسب وكالة "فرانس برس".

وأعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في افتتاح مؤتمر باريس، عن مغادرة 300 رجلٍ من المرتزقة والمقاتلين الأجانب، الأراضي الليبية، الخميس الحادي عشر من نوفمبر الجاري. 

وقالت "القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية"، الموالية لخليفة حفتر، في بيانٍ لها، إنّ: "مغادرة هؤلاء جاءت في إطار مبادرةٍ عمليّةٍ، استجابةً لطلبٍ من القيادة الفرنسية".

 

خلافاتٌ قائمةٌ بين الشرق والغرب


قبل نحو شهرٍ من الانتخابات المزمع إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول المقبل، لا تزال بعض نقاط الخلاف قائمةً بين الشرق والغرب الليبيين، وبين حكومة عبد الحميد الدبيبة، والمجلس الرئاسي الليبي، وبرلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح.

عقد مؤتمر باريس الدولي وسط أجواء متوتّرةٍ، تمثلت في توقيف وزيرة الخارجية، نجلاء المنقوش، بسبب ما رأى المجلس الرئاسي أنها "مخالفاتٌ إداريةٌ"، وأصدر أمرًا بمنعها من السفر خارج ليبيا. تقول الناشطة الحقوقية الليبية، أسماء خليفة، إنّ: "هذه الخطوة تتماشى مع القواعد المعتادة للعبة، في حال وصول حكومةٍ جديدةٍ إلى السلطة لفترةٍ معينةٍ من الزمن"، مضيفةً في تصريحٍ للقناة الألمانية "دوتشفيله": "هذا يظهر مستوى الصراع على السلطة، والنفوذ في ليبيا، بين القوى الفاعلة والأفراد"، وتشدّد على أنّ الهدف هو: "إضعاف المنافسين في هذه المرحلة الزمنية حتى يُتمكن لاحقًا من ممارسة تأثيرٍ أكبر، أولًا، يتعلق الأمر بمعارك موجهةٍ، وتحديد المواقع في سياق الانتخابات".

وفي السابع من الشهر الجاري، أعلن مسؤولٌ في حكومة الوحدة الوطنية، أنّ الرئيس عبد الحميد الدبيبة الذي اكتسب شعبيةً كبيرةً في الفترة الأخيرة، "يعتزم الترشح إلى الانتخابات الرئاسية"، بالرغم من أنه تعهّد بعدم الترشح عندما تمّ تعيينه رئيسًا للحكومة.

تعتبر الباحثة الليبية، أسماء خليفة أنّ هذه الخطوة، تمثل إشكاليةً حقيقةً، وتقول: "ترشح رئيس الوزراء الحالي لم يكن متّفقًا عليه، ومثل هذه الخطوة تظهر تجاهلًا للاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بجهدٍ كبيرٍ، وسيساعد هذا الترشح على الإبقاء على أبواب الصراع مفتوحةً على مصراعيْها".

وقبل شهرٍ من الانتخابات، لم يتمّ الاتفاق نهائيًا على جميع النقاط التي وردت في القانون الانتخابي الذي أعدّه البرلمان. وطالب المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، بإدخال تعديلاتٍ على عديد الفصول، والتوافق بشأنها بين البرلمان، والمجلس الأعلى.

واعتبر المشري أنّ "إجراء الانتخابات بالطريقة التي خطط لها مجلس النواب، وفي هذه الظروف الخاصة من تاريخ ليبيا، قد يؤدي إلى حربٍ أهليةٍ"، مضيفًا أنّ "النتائج المترتّبة عنه تشكل خطرًا حقيقيًا على واقع ومستقبل الشعب الليبي".

وأكد خالد المشري، في مقابلة، مع "الجزيرة مباشر"، قبل انعقاد مؤتمر باريس، أنّ "أيّ نتائج تترتب عن هذه الانتخابات، وفق هذا القانون، لن يتمّ الاعتراف بها، لأنها تفتقد للمصداقية، والقبول من طرف عموم أبناء الشعب الليبي"، مشدّدًا على أنّ "استقرار ليبيا يتوقّف على درجة الالتزام بمقرّرات الأمم المتحدة".

وأشار رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا إلى أنّ "الصّراع في ليبيا تحوّل إلى صراعٍ حول النصوص القانونية والدستورية".

 

ارتكاب جرائمَ خطيرةٍ ضدّ الدولة 

 

في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، طلب المدّعي العام الليبي، من رئيس المفوضية العليا للانتخابات "إيقاف السير في إجراءات ترشح سيف الإسلام القذافي، إلى حين امتثاله للتحقيق فيما أسند إليهما من وقائع".

وحمّل المدّعي العام العسكري في ليبيا، رئيس المفوضية العليا للانتخابات، المسؤولية القانونية في حال مخالفته، هذا الأمر.

 

وأحالت المفوضية العليا للانتخابات، قائمةً أولى من طلبات المتقدّمين للترشح للانتخابات الرئاسية، إلى كلٍّ من النائب العام، وجهاز المباحث الجنائية، والإدارة العام للجوازات والجنسية.

وأوضحت في بيانٍ لها، أنّ "إحالة هذه الأسماء إلى الجهات المختصة جاء عملًا بالقانون رقم (1) لسنة 2021 بشأن انتخاب رئيس الدولة، وتحديد صلاحياته، وتعديلاته، الذي يشترط على المرشح ألّا يكون محكومًا عليه نهائيًا في جنايةٍ، أو جنحةٍ مخلّةٍ بالشرف، أو الأمانة، وألّا يحمل جنسية دولةٍ أخرى عند ترشّحه".

وأكد خالد الغويل، الناشط السياسي الليبي، في تدوينةٍ له على صفحته الخاصة في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أمس الخميس، أنّ المدعي العام الليبي صادق على أوراق ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية.

وأضاف في ذات التدوينة، أنّه "لا توجد موانعُ قانونيةٌ لترشح سيف الإسلام القذافي لرئاسة ليبيا" .

 

لا للإقصاء 

 

يتّفق المجتمع الدولي على ضرورة قبول ترشّح إيّ ليبيٍّ للانتخابات الرئاسية، وذلك لضمان المشاركة الفعّالة في الانتخابات المنتظرة، والقبول بنتائجها، وهو ما سيسمح لكلّ من خليفة حفتر، وسيف الإسلام القذافي، بصفةٍ خاصةٍ، بالمشاركة.

وتتفق الدول العظمى على ألّا يتمّ إقصاء أحدٍ من المشاركة في الانتخابات.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة، إنّ: "المجتمع الدولي يساند بقوّةٍ المسار الذي قاد اللّيبيين إلى هذه المرحلة"، مؤكدًا على مواصلة دعم الليبيين "من خلال تنظيم انتخاباتٍ برلمانيةٍ ورئاسيةٍ شاملةٍ، وذات مصداقيةٍ، في 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل، على النحو المتوخّى في خارطة الطريق السياسية التي اعتمدت في عام 2020، والتي صدر بها تكليفٌ بموجب قرار مجلس الأمن 2570".

وأكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في رسالةٍ عبر الفيديو إلى المشاركين في مؤتمر باريس، أنّ الهدف الرئيسي لهذا المؤتمر هو "تحقيق السلام للشعب الليبي الذي حُرم منه لفترة طويلةٍ".

وأضاف غوتيريش: "ليبيا باتت اليوم أقرب من أيّ وقتٍ مضى إلى حلّ أزمتها الداخلية، وكسر دوّامة الانتقالات السياسية مما كانت عليه على امتداد سنواتٍ عديدةٍ، لذلك لا يجب أن نفوّت هذه الفرصة".

 

مؤامرةٌ من أجل استعادة فرنسا لنفوذها

 

تخوّف مراقبون للشأن الليبي من "مؤامرةٍ دوليةٍ لإجهاض العملية الانتخابية، وتعطيل مسارات إرساء الاستقرار السياسي والمؤسساتي بليبيا"، واعتبروا أنّ فرنسا "عادت إلى ورقة تنظيم المؤتمرات الدولية بشأن ليبيا في مسعًى لاستعادة نفوذها الذي خسرته بعد تدخّل روسيا وتركيا عسكريًا".

واعتبر المحلل السياسي الليبي، عزالدين عقيل، أنّ المؤتمر هو "مؤامرةٌ دوليةٌ على ليبيا، لأنّ كل الأطراف لا تريد وضع قاعدةٍ دستوريةٍ".

وأشار عقيل في تصريحٍ لـ "العرب" إلى أنّه "عندما تريد روسيا أن يشارك الخُضر في البرلمان، مشاركةً قويّةً، وأطرافُ أخرى تدفع نحو الدفاع عن مصالحها في ليبيا، فهذا يعني أنّ الجميع يعطّل مسار الانتخابات"، وأنّ "كلّ القوى الإقليمية والدولية تريد انتخاباتٍ على المقاس".

وأفاد بأنّ "اجتماع باريس هو أشبه باجتماع مجلس الأمن، لكن يبدو أنّ باريس تعتقد أنّ المؤتمر سيكون حلًّا لإرساء قاعدةٍ دستوريةٍ، وهو ما يتلاءم مع مصالحها السياسية في ليبيا، خاصةً، وقد  وجدت عددًا كبيرًا من القوى التي تتوافق مع أهدافها".

وتابع: "هم مَنْ سيضعون القاعدة الدستورية، لأنه ثبت أنّ الأطراف الجدلية ليست مرفوضةً من قبل اللّيبيين، بل يتمّ رفضها من القوى الإقليمية"، مشيرًا إلى أنّ "هذه الانتخابات ستجلب كارثةً إلى ليبيا، وإذا كانت التّفاهمات السابقة قسّمت ليبيا إلى قسمين، فإنّ هذه الانتخابات ستدفع نحو الاحتراب، والعنف، أكثر ممّا مضى".

من جانبه، اعتبر الخبير في الشأن الدولي، منتصر الشريف، أنّ "هذا المؤتمر لن يؤثّر في الناخبين الليبيين لأنّ الانتخابات ستكون صوريّةً"، مؤكدًا في تصريحٍ لـ"العرب"، أنّ مؤتمر باريس "سيكون مآله الفشل"، مثل بقية المؤتمرات، التي لم تؤدِّ إلى نتائجَ إيجابيةٍ ملموسةٍ.

وأكد أنّ فرنسا ستسعى لخلق تفاهماتٍ جديدةٍ مع تركيا، وإيطاليا، خاصةً وأنّ أنقرة تحاول فرض أجندتها السياسية في طرابلس، مشدّدًا على أنهم "سيتّفقون أخيرًا، ومثلما استفادوا من الحرب في ليبيا، سيستفيدون من السّلم أيضًا" .