منذ بدايات القرن الماضي، تعيش المرأة العربية مخاضًا عسيرًا وتخوض معارك فكريةً متجذّرةً في المجتمعات العربية الإسلامية، بهدف الحصول على حقوقها الطبيعية في المشاركة الاجتماعية والسياسية.

وخلال مسارها التاريخيّ، حققت الحركات النسوية العربية، التي بقيت مقتصرةً على النخبة المتشبّعة بالثقافة الغربية، وتحت تصرّف الحاكم العربي، الكثير من الحقوق. وتمكّنت اليوم من التّساوي مع الرجل في الحقوق والواجبات، في عديد الدول العربية، وارتفعت نسبة تمدرسها، حتى تبوّأت مكانةً مرموقةً في البرلمانات والحكومات، وبلغت بها الجرأة حدًّا أن طالبت بالتساوي في الميراث مع الرجل، كما حصل في تونس، في مجتمعٍ متشبّعٍ بالثقافة الإسلامية.

وإن حققت الحركات النسوية العربية كثيرًا من النجاحات على مستوى الحقوق التي تتمتّع بها اليوم، فإنّ الباحثين ينتقدون، ما يعتبرونه، استفراد النخب من النساء بهذه الحركات، وبقاءها في حدود البحث عن مصالح شخصيةٍ، مشدّدين على وجود "مسافةٍ شاسعةٍ بين وجودها الإعلامي النخبوي، وبين حراكها الواقعي، وقربها من قضايا المرأة الجوهرية والحقيقية"، بالرغم من الدور الهام الذي لعبته المرأة العربية، سواء خلال الفترات الاستعمارية، حيث انخرطت في الحركات التحريرية والتنظيمات العسكرية التي حاولت طرد المحتلّ، كما في الجزائر، وفلسطين، مثلًا، أو في الثورات العربية الأخيرة، كما في تونس، والسودان، والتأثير على صانعي القرار العربي.

ويؤكد باحثون آخرون على أنّنا، ما نزال اليوم "في حاجةٍ إلى ثورةٍ فكريةٍ إيجابيةٍ تساند وتدعم المرأة، وتطيح بالعادات السيئة التي قوّضت حركتها".

فما هي المراحل التي مرّت بها الحركة النسوية العربية؟، وما قدرتها على التأثير في مجتمعاتنا العربية؟.   


المرأة في الموروث الثقافي العربي

من خلال استقراءٍ لما كُتب عن الحركات النسوية، كانت النظرةُ إلى هذه الحركات في الوطن العربي، والحاجة إليها، "محكومةً بأمريْن متوازييْن: أوّلهما، طبيعة الحيّز الذي تشغله المرأة في الموروث الثقافي العربي، وثانيهما، مدى الاحتياجات الحقيقة للأهداف التي بُنيت عليها هذه الحركات". وفق ما أشار إليه تقريرٌ لقناة الجزيرة.

وقد أجملت الباحثة فاطمة حافظ، المراحل التي مرّ بها الحراك النسويّ، في سياقه التاريخي، من، مرحلةٍ نهضويةٍ، أوائل القرن العشرين، وحتى ثلاثينياته، وركّزت هذه الحقبة على مطالب اجتماعيةٍ، كحقّ النساء في التعلّم والعمل، إضافةً إلى بعض القضايا المرتبطة بها، مثل: الحجاب، والضوابط التي يمكن أن تحكم خروج المرأة، وطبيعة الدوائر التي يمكن أن تشتغل فيها.

وفي فترة ما بين الأربعينيات والخمسينيات، وخلالها ترسّخ حق النساء في التعليم والعمل، ولم يعودا مطروحيْن للنقاش. وقد تجاوز الخطاب النّسوي في هذه المرحلة الثانية، مطالبه الاجتماعية إلى الحقوق السياسية، حيث انخرطت النساء في حركات التحرّر الوطنية آنذاك في مصر وفلسطين والمغرب والجزائر، وتونس.

وخلال مرحلة صعود الدولة القومية، فقد امتلكت الدولة ناصية العمل النسائي، وأخضعت كل التنظيمات النسائية تحت سلطتها، وأقدمت على تقنين أوضاع النساء عبر إصدارها قوانين العمل وقوانين الأسرة، كما حصل في تونس من خلال "مجلة الأحوال الشخصية" التي صدرت في أغسطس من العام 1956.

وانطلاقًا من ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا، إلى بداية القرن الحادي والعشرين، والتي شهدت انسحاب الدولة، وبروز سلطة العوملة، وفي مستهلّها شهدت البلاد العربية قاطبةً صحوةً إسلاميةً كردّ فعلٍ على عملية التحديث على النّسق الغربي التي انتهجتها الدولة.

وقد أفرزت هذه الصحوة بدورها تيّارًا نسائيًا إسلاميًا تشكّل من نساء الطبقة الوسطى. وقد عبر هذا التيار عن ذاته في شكل عودةٍ موسّعةٍ لارتداء الحجاب، وتأسيس جمعياتٍ نسائيةٍ على أسسٍ ومرجعياتٍ إسلاميةٍ، وانخراطٍ في التيارات والأحزاب الإسلامية القائمة، ومشاركة النساء في الترشح على قوائمها الانتخابية، واحتلالهن مراكز متقدمةً في هياكلها التنظيمية.

 

المرأة الجزائرية ومعركة التحرير الوطني


لئن شاركت المرأة الجزائرية في معركة التحرير الوطني من المستعمر الفرنسي، جنبًا إلى جنبٍ مع الرجل، ولا أدلّ على ذلك من المناضلات جميلة بوحيرد، وفاطمة قاسمي، وفاطمة خليف، وبدرة عمامرة، وغيرهنّ كثيرات، وتبوّأت الآن المكانة المرموقة التي تستحقّها، في مرحلة البناء، فإنّ المرأة الفلسطينية لا تقلّ نضاليةً عن المرأة الجزائرية، من خلال وقوفها اليومي في وجه المحتلّ الإسرائيلي، وتربية أبنائها على حبّ الوطن والإخلاص له.

وانخرطت عديد النساء الجزائريات في حرب التحرير الوطني لإجلاء المستعمر الفرنسي، ونالت ما نالت من التعذيب والعنف الجنسي والمعنوي، والتنكيل بهنّ.

وتمكنت المرأة الجزائرية من تأسيس حركاتٍ وجمعياتٍ نسويةٍ بهدف كسب الحقوق، وتجاوز التمييز، بعد مساهمتها في حرب التحرير. ونجحت في الحصول على عديد المكاسب، إلا أنها كغيرها من النساء في المجتمعات العربية التي تحكمها النزعة الذكورية. ووفق إحصائياتٍ رسمية، فقد كانت ضحيةً لأكثر من 7500 حالة عنفٍ، منها 190 حالة تحرشٍ جنسيٍّ، و17 حالة قتلٍ، خلال العام 2017.

وفي دراسةٍ نشرتها مجلة "المصادر" في 2016، يؤكد الباحث أحمد عصماني على دور المغتربات الجزائريات في ثورة التحرير الكبرى، وذلك من خلال المشاركة الضمنية، بمعنى المشاركة غير المباشرة التي كانت تتمثل في موقفها الإيجابي الذي جسّدته كمسؤولة عن مقوّمات الأسرة وعاداتها وتقاليدها الروحية والحضارية، والمشاركة المباشرة، وهي عبارة عن مشاركة ظاهرة ومباشرة بانخراط الفتاة أو المرأة في صفوف جبهة وجيش التحرير الوطني.

وإن بدت هذه المشاركة محدودةً لاعتباراتٍ عديدةٍ، يقول الباحث، إلا أنها كانت فعّالةً في كثيرٍ من الأحيان، ذلك أنّ المرأة ليست كالرجل، فقد أدت أدوارًا يصعب على الرجل القيام بها تحت المراقبة اللصيقة للجزائريين التي فرضتها السلطات الأمنية الفرنسية.


المرأة الفلسطينية والنّضال المستمرّ 

 

في مارس/آذار الماضي، سلّطت فعاليةٌ افتراضيةٌ، الضوء على "الوضع الراهن الذي تعيشه النساء الفلسطينيات في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، ودورهن في بناء المجتمع، وأنشطتهن ضمن المؤسسات في مجال إنهاء الاحتلال"، وذلك على هامش الدورة 65 للجنة الأمم المتحدة المهتّمة بالمرأة.

وفي تقريرٍ للأمم المتحدة، أكدت القائمة بالأعمال بالإنابة للمراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، فداء عبد الهادي ناصر، أنّ "المرأة الفلسطينية تكيّفت عبر الأجيال، بسلاسةٍ، ليس فقط من أجل تجاوز الصعوبات، ولكن أيضًا من أجل تحقيق النماء والازدهار، وكانت الحركة النسوية النشطة من العلامات البارزة للقصة الفلسطينية"، مشيرةً إلى أنّ النساء الفلسطينيات "طوّرن مهارات التأقلم المنقذة للحياة، وتعلّمن رعاية وتغذية أسرهن في أحلك الظروف".

وأكدت دائرة الإحصاء الفلسطينية، أنّ "أكثر من عُشر المنازل في فلسطين تعيلها نساءٌ".

 وأوضحت ناصر أنّ النساء الفلسطينيات تعلّمن تقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالهن الذين يعانون من العنف، جرّاء السلطة القائمة بالاحتلال، والاعتقالات، والترهيب، بسبب المستوطنين المتطرّفين.

وأبرزت دور المرأة الفلسطينية في المجتمع، مشدّدةً على أنّ "المرأة جعلت من التعليم أولويةً، فنسبة النساء الصغيرات اللائي يرتدن الجامعات أكثر من نسبة الذكور"، فضلًا عن "محافظة المرأة على فنّ التطريز والأغاني التراثية والأطباق الوطنية، فهنّ كاتباتٌ وطبيباتٌ وممرّضاتٌ وعضواتٌ في المجلس التشريعي ومدرّساتٌ ووزيراتٌ وسفيراتٌ وفنّاناتٌ ومحامياتٌ وناشطاتٌ في المجال الإنساني، ومبتكراتٌ".

ورغم ما وصلت إليه المرأة الفلسطينية، فهي لا تزال تعاني، وتواجه صعوباتٍ كثيرةً، فهي إلى جانب دورها العائلي، سواءٌ داخل الأسرة، أو في مراكز العمل، فهي تتعرّض، كما الرجل، إلى الاعتقال والتعذيب والقتل من طرف الاحتلال الإسرائيلي.

وقد تعرّضت أكثر من 16 ألف امرأةٍ فلسطينيةٍ، من مختلف الأعمار، طوال الصراع مع المحتلّ الإسرائيلي، إلى الاعتقال في السجون الإسرائيلية. وشهدت انتفاضة الحجارة، 1987، أكبر عملية اعتقالٍ بحق النساء الفلسطينيات، التي تجاوزت 3 آلاف امرأةٍ، كما اعتقلت خلال انتفاضة الأقصى العام 2000، أكثر من 900 فلسطينيةٍ. وحتى بداية الشهر الجاري، تقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي 31 امرأةً فلسطينيةً.

ورغم المكانة التي بلغتها المرأة الفلسطينية، فتواجدها في مراكز القرار السّياسي يبقى في حاجةٍ إلى دعمٍ أكبر، فنسبة تواجد المرأة الفلسطينية في المناصب الوزارية لا تتعدّى 28%، وتوجد 12 سفيرةً من بين 107 سفيرًا في مختلف دول العالم، بينما لا نجد غير امرأةٍ واحدةٍ على رأس محافظةٍ من بين 16محافظةً (6%)، وأما في القطاع القضائي فالتمثيل النسويّ لا يتجاوز الثلث.

وشدّدت الصحفية، والناشطة في المجتمع المدني، نور السوريكي، على ضرورة "المشاركة في صنع القرارات، وتغيير القوانين، والتشريعات، والخدمات الصحية، والخدمات الاجتماعية، وتعزيز المناخ الاقتصادي للنساء"، داعيةً إلى "أهمية إعادة تأهيل النظام السياسي ليدعم المنظمات النسائية، والمشاركة النسائية، ومنظمات المجتمع المدني، لتعزيز دور المرأة في رؤية الدولة الفلسطينية".

 

الحاجة إلى ثورةٍ فكريّةٍ إيجابيّةٍ 


ولئن اعتبر الباحث عصام عبد الباسط، في تقريرٍ نشرته المجلة النسوية "لها" أنّه لا وجود لقضيّةٍ اجتماعيّةٍ يتمّ التّلاعب بها، واستخدامها بشكلٍ انتقائيٍّ وانتهازيٍّ، سياسيًا، مثلما يتمّ التعامل مع قضايا المرأة، بسب التخلّف الناجم عن تخلّف الهياكل السياسية والاجتماعية، فإنه يؤكد على أنّ المهمّ هو "إيجاد حيّز من التحرّك، يسمح بالعمل على تغيير ذلك الواقع الاجتماعي في السياق العربي والإسلامي، دون الوقوع في فخّ الابتزاز السياسيّ الغربيّ".

وبالتالي، ورغم التحوّلات العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية، تبقى المرأة العربية في حاجةٍ إلى ثورةٍ فكريةٍ إيجابيّةٍ تساندها، وتدعم مشاركتها إلى جانب الرّجل في مرحلة البناء