مع اقتراب الحرب على غزة من مراحلها الأخيرة، يبدو المشهد مثقلاً بالأسئلة أكثر مما هو محمّل بالإجابات.

ماذا حققت هذه الحرب للشعب الفلسطيني؟ وهل كانت الكلفة الباهظة التي دفعها أهل القطاع متناسبة مع أي مكسب سياسي أو ميداني يمكن الحديث عنه؟

بعد عامين من الدم والدمار، وبعد آلاف الشهداء والمصابين والمشرّدين، تفرض الحقيقة نفسها بلا مواربة: لم ينتصر أحد... إلا الخراب.

حين تُختزل القضية في المعركة

المشكلة الجوهرية التي كشفتها هذه الحرب لا تكمن في القدرة العسكرية لحماس أو غيرها من الفصائل، بل في الخلط الخطير بين "المقاومة" كوسيلة و"المقاومة" كغاية في ذاتها.
لقد تحولت المقاومة المسلحة تدريجيًا، على مدار السنوات الماضية، من أداة ضمن أدوات النضال الوطني الفلسطيني إلى أيقونة مقدسة لا يجوز المساس بها أو حتى التساؤل عن جدواها.

لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة هو:
هل المقاومة هدف بحد ذاتها؟ أم أن الهدف الحقيقي هو تحرير الإنسان الفلسطيني من الاحتلال ومنحه حياة كريمة؟
وإذا كانت المقاومة تؤدي إلى مزيدٍ من القتل والتهجير والحصار دون أن تقترب خطوة واحدة من تحقيق الهدف المنشود، أليس من الواجب إعادة النظر في الاستراتيجية برمتها؟

الشعب هو الغاية، لا الشعار

الخطأ الاستراتيجي الأكبر الذي ارتكبته قيادات المقاومة هو اعتبار الشعب الفلسطيني وقودًا للمعركة، لا غايتها.
تم التعامل مع المدنيين في غزة كأنهم جنود في جيش، مطالبون بتحمّل ثمن "الصمود" و"المقاومة" دون أن يُسألوا عن رأيهم أو يُمنحوا خيارًا حقيقيًا.

لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح هي أن الشعب الفلسطيني ليس مادة خامًا للتضحية، بل هو الهدف النهائي لأي نضال تحرري.
والمقاومة التي لا تخدم مصلحة هذا الشعب، ولا تحسّن من ظروف حياته، ولا تقرّبه من حريته، ليست مقاومة بل انتحار جماعي.

كان على صُنّاع القرار أن يسألوا أنفسهم قبل إطلاق شرارة الحرب:
هل نملك استراتيجية حقيقية لحماية المدنيين؟
هل لدينا خطة سياسية للاستفادة من أي مكسب ميداني؟
هل هناك أفق واضح لإنهاء الحرب بطريقة تخدم القضية الفلسطينية؟

حرب بلا أفق

بالنسبة لإسرائيل، كانت الحرب محاولة لاستعادة ما تسميه "الردع"، لكنها في جوهرها كشفت أزمة أعمق في قدرتها على التعامل مع الفلسطينيين إلا كأعداء أبديين.
أما بالنسبة لحماس، فقد كانت حربًا أرادت من خلالها إعادة القضية الفلسطينية الى الواجهة، لكنها انتهت — كما في كل مرة — إلى إعادة إنتاج المأساة نفسها بأثمانٍ أفدح وواقعٍ أكثر قسوة.

اليوم، لا يمكن إنكار أن غزة دفعت الثمن الأكبر:
بنية تحتية مدمّرة، نسيج اجتماعي متفكك، وأجيال جديدة كبرت على أنقاض البيوت والمدارس والمستشفيات.
أما العالم، الذي كان ذات يوم يتحدث عن "الحق في تقرير المصير"، فقد أصبح يتحدث عن "إعادة الإعمار" و"التهدئة"، وكأن الكارثة كانت مجرد خللٍ تقني في إدارة الأزمة.

المعنى المفقود للمقاومة

لقد أثبتت هذه الحرب أن المقاومة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة ينبغي أن تخدم هدفًا واضحًا: الإنسان.
وحين تتحول المقاومة إلى شعار منفصل عن معاناة الناس اليومية، فإنها تفقد معناها الأخلاقي والسياسي.
المقاومة التي لا تحمي حياة الفلسطينيين، ولا تحفظ كرامتهم، ولا تفتح أمامهم أفقًا سياسيًا، تصبح في النهاية تكرارًا لطقس الدم، لا مشروعًا للتحرر.

لا أحد يشكّ في شجاعة من يقاتلون، لكن البطولة لا تُقاس بعدد الصواريخ أو بمشاهد الدمار، بل بقدرة الفعل المقاوم على تحقيق مكاسب حقيقية للناس الذين يُفترض أنه يقاتل باسمهم.
فما قيمة "الردع" إذا انتهى إلى مجاعة؟ وما معنى "الصمود" إذا صار عنوانًا لجحيمٍ مفتوح؟

من المقاومة إلى البناء

المقاومة الحقيقية اليوم ليست في إطلاق النار، بل في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، وفي استعادة الصوت الفلسطيني الموحّد القادر على التفاوض والتمثيل والرؤية.
فالحروب لا تصنع الأوطان، بل تؤجلها.

إن ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس مزيدًا من الرموز أو الشعارات، بل قيادة سياسية تمتلك الجرأة على أن تقول: كفى موتًا بلا جدوى، وكفى انتصارات بلا معنى.

حين تنتهي هذه الحرب، سيكتشف الجميع — ربما متأخرين — أن غزة لم تكن ساحة معركة، بل اختبارًا للضمير الإنساني،
وأن القضية الفلسطينية لن تنتصر بصوت المدافع، بل بقدرة الفلسطيني على البقاء حيًا، متمسكًا بكرامته، مؤمنًا بأن الإنسان هو الهدف... لا الوسيلة.