بعد أشهر طويلة من الحرب، لم يعد الجوع في غزة مجرّد معاناة يومية، بل صار شكلاً من أشكال الموت البطيء، رغم تحذيرات المنظمات الإنسانية الدولية منذ أشهر من بلوغ القطاع مستويات غير مسبوقة من انعدام الأمن الغذائي.

ومع دخول المساعدات الإنسانية بشكل متقطع نتيجة الحصار الإسرائيلي، يتزايد الحديث في أزقّة غزة المدمَّرة، وعلى أطراف طوابير الإغاثة الطويلة والمحفوفة بخطر الموت، عن ظاهرة مقلقة: "المساعدات لا تصلنا... تُسرق في الطريق"، هكذا يقولها كثيرون دون تردّد، مشيرين بأصابع الاتهام إلى الفوضى التنظيمية، والعصابات المسلحة، وبعض العناصر التابعة لحماس.

في أحد مراكز التوزيع جنوب القطاع، وقف إياد (38 عامًا) يقول: "لم نعد نرى الأكياس التي يُقال إنها جاءت باسمنا... كلها تُسرق وتُباع في السوق السوداء". ثم يضيف: "قيادة حماس تقول إنها تقود المعركة، لكنهم بعيدون عن النار... نحن الذين نحترق".

ورغم الجهود الدولية التي تبذلها الأمم المتحدة وعدد من الدول لإدخال مساعدات عاجلة، يؤكد الغزيون أن أغلب تلك الإمدادات لا تصل إلى مستحقيها. ويقول محمود شحادة، باحث في شؤون الشرق الأوسط: "المنظومة التي كانت تنظم توزيع المساعدات انهارت، وتحولت نقاط التوزيع إلى ساحات سيطرة لعناصر مسلحة أو مجموعات مرتبطة بمصالح سلطوية".

قيادة في الخارج، وأفواه جائعة في الداخل

في سوق النصيرات، يُباع كيس الدقيق بـ300 دولار. "مَن يستطيع شراءه؟"، تتساءل أم عبد الله، وهي تفتّش بين أكياس فارغة ملقاة على الأرض. وتتابع: "يقولون إنهم يقاتلون من أجلنا... لكنهم يعيشون في نعيم الخارج، ونحن نأكل من النفايات".

وفيما تتهم إسرائيل حماس بإخفاء جزء كبير من المساعدات، سواء لتأمين شبكات الدعم اللوجستي الخاصة بها أو لاستخدامها كورقة ضغط سياسي داخلية، تنفي الحركة أي مسؤولية عن ذلك.

"نظام أخلاقي مكسور"

يرى كثير من سكان القطاع فيما يحدث انهيارًا أخلاقيًا قبل أن يكون أزمة سياسية. ويشرح أحد أساتذة علم الاجتماع في الجامعة الإسلامية سابقًا أن "المجتمع دخل مرحلة من التفكك القِيَمي... حيث القوي يسرق، والضعيف يموت بصمت".

ورغم نفي قيادات في حماس لهذه الاتهامات، وتصريحاتها المتكررة بأنها "تعمل على تأمين الأمن الغذائي للمواطنين"، إلا أن الواقع اليومي في الشارع يرسم صورة مختلفة.

في مشهد عبثي يتكرر يوميًا، يركض الأطفال وراء شاحنات الإغاثة، بينما تتسلّل شاحنات أخرى، دون لوحات أو علامات، إلى مناطق مغلقة أمام العامة.

"لم نعد نؤمن بشيء"

يقول مصطفى (25 عامًا)، وهو جالس أمام منزلٍ مدمر في بيت لاهيا: "كل شيء انتهى... حتى الأمل. المساعدات تُنهب، الأصوات تُخنق، والموت يتربص بنا من كل اتجاه". ثم يصمت قبل أن يهمس: "حتى الخبز، لم نعد نحصل عليه دون وساطة".

يبدو أن الجوع في غزة اليوم لم يعد ناتجًا فقط عن الحصار أو الحرب، بل عن واقع داخلي مأزوم، حيث تحولت المساعدات – التي يُفترض أن تخفف المعاناة – إلى سلعة سياسية وسوق مفتوح للفاسدين.

وبينما تُجري الوفود الدولية مفاوضاتها في العواصم، يبقى السؤال معلقًا في سماء غزة: متى يُمنح الجياع حقهم في رغيف الخبز... دون سلاح، دون إذلال، ودون انتظار طويل في طوابير لا تنتهي؟