منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، سعت حركة حماس، التي أنهكتها الحرب وفقدت كثيرًا من بنيتها العسكرية والتنظيمية، إلى استعادة ما تبقّى من سلطتها في القطاع المدمَّر نتيجة الاستهداف الإسرائيلي المكثّف على مدار عامين. غير أنّ حملتها الأمنية الأخيرة، التي أودت بحياة أكثر من ثلاثين شخصًا، فتحت بابًا واسعًا للأسئلة حول مستقبل الحكم في غزة وموقع الحركة في أيّ تسويةٍ قادمة.
مشاهد القتل… واستعادة السيطرة
نفّذت حماس حملة تصفية استهدفت مجموعاتٍ مسلّحة وعشائرية اتهمتها بالتواطؤ مع إسرائيل أو بمحاولة تقويض نفوذها في القطاع.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع تُظهر مسلحين ملثمين يُطلقون النار على عددٍ من الفلسطينيين في الشوارع، في مشهدٍ أثار استنكارًا دوليًا واسعًا.
ورغم أنّ الحركة لم تصدر بيانًا رسميًا يوضّح ملابسات الأحداث، فإنها سبق أن أعدمت علنًا ثلاثة متهمين بالتخابر مع إسرائيل الشهر الماضي، في خطوةٍ وصفتها بأنها "رسالة ضد الفوضى والاختراق الأمني".
ضوءٌ أخضر مؤقّت أم شرعيّة ضمنيّة؟
تزامنت هذه التطورات مع تصريحاتٍ للرئيس الأميركي دونالد ترامب ألمح فيها إلى أنّ واشنطن منحت حماس دورًا أمنيًا مؤقّتًا داخل القطاع، لتفادي الفراغ الأمني وما قد ينجرّ عنه من فوضى بعد وقف إطلاق النار.
وقال ترامب إن الحركة "تسعى إلى وقف المشكلات الداخلية، وقد حصلت على موافقةٍ مؤقتة للقيام بمهام شرطية"، في تلميحٍ يُثير جدلاً حول حدود هذا التفويض ودلالاته السياسية.
في المقابل، ترى دوائر إسرائيلية أنّ هذه الترتيبات المؤقتة يجب ألا تتحوّل إلى واقعٍ دائم، مؤكدةً أنّ نزع سلاح حماس شرطٌ لا يمكن تجاوزه في أيّ اتفاقٍ نهائي.
رهانات الوسطاء ومخاوف الغزيين
في الأثناء، يتعامل الوسطاء مع هذه التطورات بحذرٍ شديد، إدراكًا منهم أنّ الاضطراب الداخلي في غزة قد يقوّض أيّ مسارٍ نحو تسويةٍ طويلة الأمد.
وبينما يتحدث البيت الأبيض عن "تسريع تنفيذ بنود نزع السلاح"، يأمل الغزّيون ألا يكون الثمن مزيدًا من الفوضى والانقسام، وأن تؤدي الضغوط الدولية إلى نظامٍ أكثر استقرارًا وعدلاً بدلًا من إعادة إنتاج الهيمنة القديمة بأسماءٍ جديدة.
ونقل موقع "أكسيوس" الأميركي عن مسؤولٍ في وزارة الخارجية قوله إنّ "مشاهد الإعدامات الميدانية داخل القطاع تؤكد أنّ الحركة تُشكّل تهديدًا للاستقرار الداخلي في غزة، وللاستقرار الإقليمي على حدٍّ سواء"، مشيرًا إلى أنّ واشنطن ستضغط بقوةٍ من أجل نزع سلاح حماس.
ويقول المحلّل السياسي حسن سوالمة إنّ ما يبدو من محاولات حماس لضبط الأمن في القطاع يخفي وراءه مشهدًا أكثر تعقيدًا: "فالحركة التي خرجت من الحرب مثخنةً بالجراح، تحاول أن تُقنع الداخل الفلسطيني بأنها لا تزال الرقم الأصعب في معادلة غزة."
إلا أنّ ما يحدث اليوم قد يكون اللحظة التي تُعيد فيها الحرب صياغة مفهوم القوة داخل القطاع: ليس في مَن يملك السلاح، بل في مَن يستطيع أن يُنهي فوضى الدم دون أن يُعيد إنتاجها.
مرحلة "ما بعد السلاح"
تتضمّن خطة ترامب تسليم إدارة قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية بإشرافٍ دولي، تُعزَّز بقوات أمنية محلية مدرَّبة ومدعومة دوليًا، على أن تنسحب حماس تدريجيًا من المشهد العسكري والسياسي.
لكن الحركة تؤكد أنّها لن تناقش تسليم سلاحها في غياب دولة فلسطينية ذات سيادة، مشددةً على أنها لا تسعى لتولّي أيّ دورٍ في الهيئة الحاكمة المقبلة "ما دام القرار وطنيًا خالصًا غير خاضعٍ لهيمنةٍ أجنبية".
العشائر والتوازنات القديمة
الاشتباكات الأخيرة لم تكن مجرّد حملةٍ أمنية، بل تجلٍّ لصراعٍ قديم بين حماس وبعض العائلات والعشائر التي تتّهمها بالاستئثار بالسلطة والموارد.
وتشير مصادر محلية إلى أنّ أبرز المواجهات دارت في مدينة غزة مع أفرادٍ من عائلة دغمش، فيما امتدّ التوتر إلى رفح وخان يونس، حيث برز اسم ياسر أبو شباب كأحد أبرز المعارضين المحليين للحركة.
وفي تسجيلٍ متداول، قال أحد زعماء هذه العشائر إنّ "دور حماس سينتهي فور تسليم الأسرى"، في ما اعتبره مراقبون إشارةً إلى استعداد بعض القوى الداخلية لملء الفراغ المحتمل.




