الماء.. بئر لا ينضب من الأساطير!
الماء هو العنصر الوحيد الذي لا تساوم عليه الحياة، لأنه كامن في أساسها ومنه انبثقت الحياة. فهو الرحم الأقدم الذي احتضن الوجود قبل أن يخرج إلى شكله الحالي.
علاقة الإنسان بالماء تضرب جذورها في أعماق التاريخ السحيقة، عندما أقام أسس مدنيته عند ضفاف الأنهار وعلى شواطئ البحار، ببساطة حيث يوجد الماء وجد الانسان. وانبرى العقل يستخلص منه دلالات ورموزا ويحيك حوله الأساطير والقصص محاكياً بها عظمته وأهميته. فبما أنه السبب في نمو الزرع واستمرار حياة الإنسان، فلا بد أن يكون الموجود الأول الذي لم يسبقه شيء، فأنبت بما يحتويه من خصوبة كل شيء حتى الآلهة والوجود. وهذا ما تخبر به أساطير الخلق عند الشعوب كافة.
تقول الأسطورة الرافدية المعروفة بالإينوما إيليش:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة: (آبسو وتعامة وممو) وهذه الآلهة الثلاثة تمثل أشكالاً مختلفة من الماء وظواهره
فأبسو هي الماء العذب، وتعامة زوجته هي الماء المالح. أما ممو، فهو الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى.
هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون المغلق الذي لم يحوي بعد أي تضاريس أو سماء و نجوم، ثم انبثقت منها فيما بعد بقية الآلهة والموجودات.
إذاً عاشت تلك الآلهة الثلاثة في حالة من السكون والصمت المطلق وفي حالة تمازج داخل الماء ومتماهية معه. حتى فاض الخصب وبزغت الخليقة من داخله.
هذه الحالة من التماهي مع الماء نجدها عند كل شعوب الأرض دون استثناء. ففي الأساطير الفرعونية لم يكن في البدء سوى بحر هائج يحوي في داخله كافة الآلهة الخيرة و الشريرة، ثم خرج رع الشمس المشرقة وأنجب الكون وموجوداته. وأية أعجوبة هذه ؟ من الماء البارد السائل يخرج قرص الشمس الملتهب الحار الذي تتلظى فيه النيران دون انقطاع. أية قوة لهذا الماء؟ يبدو أن هيراقليطس الفيلسوف اليوناني الذي يقول بأن الوجود نار كبرى دائمة التوقد قد فهم هذا المغزى منذ زمن بعيد لذا قال كلمته الغامضة:
"إن الماء هو أحد أشكال النار". وسخر منه الناس حينئذ لأنهم لم يقفوا على حقيقة مقصده، الماء بما هو خصب فإن حرارة الحياة التي أنجبت الوجود تستعر في داخله، هو كالنار بل أشد منها حرارة.
في كتب الكيمياء القديمة يقولون بأن الماء يعدل العناصر الأخرى بتحطيمه الجفاف، و الجفاف صنيعة النار إنه ينتصر على النار ويثأر منها ثأراً متأنياً، يسحق الأتربة و يطري المواد. إن تلك النظرة المشبعة بالدفء للماء هي مستمدة من حرارة الرحم المائي الأول الذي سكن فيه الخلق طويلاً ثم "لم يستطيعوا نسيانه".
في الشمال، في البلاد الاسكندنافية تكفي بضع قطرات لخلق العملاق يمير أول البشر. بضع قطرات فقط نجمت من التقاء الأنهار الجليدة بالنار الملتهبة في باطن الأرض. إن تلك القطرات لا تنتمي إلى الجليد ولا إلى النار، بل هي شيء آخر مختلف حصيلة تناقضات كبرى افترقت وجمعها الماء على هيئة الندى والذي بدوره خلق الإنسان الأول الذي يحمل في داخله كل التناقضات في العالم.
وعند شعوب الهنود الحمر يحتل الماء مركز الصدارة. ففي البدء لم يكن هناك إلا الماء والحيوانات المائية وفجأة سقطت من عالم آخر مبهم وغير معروف فتاة جميلة. ولكن ما هو ذلك العالم؟ إنه الماء بلا شك، الماء نفسه ولكن بصورة غامضة بصورة السكون العظيم، أو آبسو كما يسميها البابليون، الرحم الهائل الأول الذي احتضن الجميع بدفء. وهكذا، بما أن الماء يلف الكون كله فقد أخرج من ذاته إلى ذاته وجوداً. أنثى، هي الأصل. ثم التقطت تلك الهبة المائية بطتين فأقامت على ظهرهن أحقاباً. ثم عاشت على ظهر سلحفاة عملاقة، أبحرت بها دون انقطاع بعد ذلك قامت الكائنات البحرية بإحضار التراب من قاع البحر وجمعوه حول السلحفاة مكونين منها الأرض التي عاشت عليها الفتاة أم البشر. وبذلك خرج الطين من الماء، ليكوّن الأرض، ومن جديد يبدع الماء.
وفي وادي النيل يجد الماء تعبيرية أرق، حيث يتماهى النيل مع دموع إيزيس الفاضلة على زوجها المغدور فيفيض حزناً. حتى في أدق أحزان البشر يجد الماء لنفسه مكاناً، ولم لا أليس هو البداية؟
قال إدغار آلان بو في قصيدته آنابيل لي:
أنا بل لي الجميلة.
حبيبتي. حبيبتي حياتي وعروسي
في القبر هناك جوار البحر
في قبرها عند البحر الهادر.
هناك عند البحر الذي يتصل بنهاية الوجود وبدايته، ترقد أنا بيل لي زوجته الحبيبة الميتة.
نعم كان للماء هذا التقديس فعلى ضفاف الأنهار كبابل ووادي النيل وسواحل سورية، نشأت الحضارة وغالبا ما تظهر الأنهار في المعتقدات الدينية كرموز للنفوذ الإلهي. والأنهار تستحضر صورة الطاقات العقلية والروحية التي تصله بالرحم الأول آبسو.
نهر الفرات مثلا انبثق من عيني تعامة سيدة الماء المالح، وهذه مفارقة أخرى فالفرات في اللغة يشير إلى العذوبة المطلقة، أما تعامة فهي الماء المالح الأجاج. وهنا تكمن صورة معرفية فريدة وهي انبثاق المعرفة من باطن الظلام، من الماء المالح المميت انبثق الماء العذب الفرات! من الموت ولدت الحياة ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالا وفجر في أعماقها مياهها، فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات ..
إن الأسطورة الهندوسية حول نهر الهند المقدس الغانج، تمكننا من تخيل هذا النهر على أنه إلهة تجري باستمرار مطهرة في طريقها كل نفس تلمسها.
الماء هو عالم غامض.. وهو القدر. لذا كانت كل الرحلات و المغامرات التي تجري وسط الماء في البحر أكثر إثارة وغموضاً، فلا يمكن أن يواجه الانسان قدره إلا في محيط منعزل. أين كان سيواجه أوديسيوس والسندباد كل تلك الغرائب، كل تل الكائنات والأقوام الغريبة إلا في البحر.
ولا يزال حتى الآن يحظى البحر بغموضه فقصة مثلث برمودا الذي يبتلع السفن ما تزال ماثلة في ذهن الناس جميعاً .. فهو القوة الرهيبة الغامضة التي تستطيع ابتلاع التكنولوجيا والسفن الحربية والطائرات. ويبدو أن العقل أصر على تلك الفكرة التي تحمل إغواءً خاصاً وغموضاً فعلياً يذكر العقل بطفولته الأولى وجنينيته داخل الرحم الأكبر .. آبسو الرؤوم الذي انبثق منه الوجود.









