ساعاتٌ بعد لقائه المبعوث الأمريكي، إلى القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، في الرابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، عن حلّ الحكومة، والمجلس السيادي، وإعلان حالة الطوارئ، وإقالة كافة الولاة، ووكلاء الوزارات من مناصبهم، فضلًا عن تجميد العمل بالمواد المتعلقة بالشراكة بين المدنيين والعسكريين في الوثيقة الدستورية التي أسّست للحكم الانتقالي في السودان بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.

هذا القرار، الذي كان منتظرًا من طرف البعض، جاء بعد اتّهاماتٍ متبادلةٍ بين المكوّنيْن المدني والعسكري في المجلس السيادي، بُعَيْد الإعلان عن محاولةٍ انقلابٍ فاشلةٍ في السودان. لقد صرّح البرهان أنه لن يجلس ثانيةً مع من يعتبرهم مساهمين في محاولة الانقلاب الفاشلة، بينما أكد رئيس الوزراء، عبد الله الحمدوك، أنّ الوضع في السودان خطيرٌ، محذّرًا من المساس بالمسار الديمقراطي.

قبل أيام قليلة من موعد الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرج آلاف السودانيين من القوى المدنية في "تجمّع الحرية والتغيير" في مظاهراتٍ احتجاجيةٍ تطالب بإبعاد العسكريين، وتمكين المدنيين بالإشراف على المرحلة الانتقالية، حتى موعد الانتخابات المزمع إجراؤها في ربيع العام 2024.

وفي المقابل، خرج متظاهرون مؤيّدون للمكوّن العسكري، مما أصبح ينذر بالفوضى، وهو ما جعل البرهان يصف تحرّك قوى الحرية والتغيير، ضدّه، بالانقلاب.

استشعر الأمريكيون والأوروبيون الخطر القادم في السودان بعد انقسامٍ حقيقيّ للمكوّنيْن المدني والعسكري، المشرفيْن على المرحلة الانتقالية، من خلال مجلس السيادة، والحكومة المدنية، باعتبارهم الداعمين والمباشرين للانتقال السياسي في السودان، فكانت زيارة جيفري فيلتمان، التي سبقت انقلاب البرهان على المكوّن المدني، واستحواذه على جميع السلطات.

 وتتالت الإدانات، ودعت الولايات المتحدة، والأوروبيون، والأمم المتحدة، إلى "إعادة الأمور إلى نصابها" ومواصلة الانتقال السياسي السّلمي في السودان.

فكيف انفرط عقد الشراكة بين المدنيين والعسكريين؟، وإلى أين تذهب السودان، بعد انقلاب البرهان؟، وهل ثمّة انفراجٌ في الأفق نتيجة الضغط الذي يمارسه المجتمع الدوليّ على قائد الجيش السودانيّ؟.   

 

اختلافاتٌ بين العسكريين والمدنيين

 

في الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي، أعلن في السودان عن محاولة انقلابٍ فاشلةٍ. واتّهم رئيس الوزراء السّوداني،عبد الله حمدوك، "جهاتٍ داخل وخارج القوات المسلحة" بتنفيذ محاولة الانقلاب الفاشلة، والتي تمّ إحباطها بسرعةٍ.

وقال حمدوك، في كلمةٍ أمام مجلس الوزراء، إنّ هذا الانقلاب "امتدادٌ لمحاولات فلول النظام البائد لإجهاض الانتقال المدني الديمقراطي"، مشدّدًا على أنه "يستهدف الثورة السّودانية وإنجازاتها"، مشيرًا إلى "عناصر من داخل وخارج المؤسسة العسكرية قامت بالإعداد إلى هذه المحاولة الانقلابية".

وكشف وزير الدفاع السوداني، الفريق ركن، ياسين إبراهيم، عن قائد العملية الانقلابية، فقال إنه: "اللواء ركن عبدالباقي الحسن عثمان بكراوي"، مضيفًا "رافقه في محاولة الانقلاب 22 ضابطًا آخرين برتبٍ مختلفةٍ وعددٍ من ضباط الصف والجنود".

وأكد بيان الجيش السودانيّ، أنّ "التحرّيات والتحقيقات الأولية للمحاولة الانقلابية، أشارت إلى أنّ الهدف منها كان الاستيلاء على السلطة، وتقويض النظام الحالي للفترة الانتقالية"، مؤكدًا أنه "تمّت السيطرة الكاملة على المحاولة والقبض على كل المشاركين الذين وردت أسماؤهم في التحقيقات."

وفي المقابل، أطلق رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، تصريحاتٍ شديدة اللّهجة، "انتقد فيها سياسيين اتّهمهم بفتح الباب أمام محاولة الانقلاب"، وقال: "تجاهلهم مصلحة الشعب، وانغماسهم في صراعاتٍ داخليةٍ"، في إشارة ٍ إلى فشل حكومة الحمدوك في الاهتمام بمتطلّبات الشعب السودانيّ، وهو ما حدا ببعض المراقبين إلى التصريح بأنّ السودان "الانتقال السياسي مهدّد بالفشل".

واعتبرت عديد الأحزاب، وخاصةً "حزب الأمة"، تصريحات البرهان "خطيرةً"، بينما شكّك البعض الآخر برواية السلطات عن وجود محاولة انقلابٍ أصلًا، وذلك بسبب التكتّم الكبير حول حقيقة ما حصل. 


هل هي بوادر الانفراج؟

 

في ظلّ الأزمة الخانقة التي يعيشها السودان منذ انقلاب البرهان على حكومة الحمدوك، تتسارع المساعي والجهود الدولية من أجل إيجاد مخرجٍ للأزمة يؤمّن إنهاء المسار الانتقالي بهدف الوصول إلى الانتخابات التي تمّ الاتفاق بشأنها بين جميع المكوّنات السودانية، منذ الإطاحة بعمر البشير.

وقام البرهان بالإفراج عن الوزراء المعتقلين، حيث أعلن التلفزيون السوداني الرسمي أنه "تمّ بالإفراج عن أربعة وزراء مدنيين من حكومة الحمدوك، كانوا ضمن المعتقلين"، مشيرًا إلى أنّ هؤلاء الوزراء هم " وزير الثقافة والإعلام، حمزة بلول، ووزير التجارة، علي جدو، ووزير الشباب والرياضة، آدم الضي، ووزير الاتصالات، هاشم حسب الرسول".

وقال مصدر مقرّب من رئيس الوزراء، عبد الله الحمدوك، وفق "فرانس برس"، إنّ: "المحادثات التي تجري بينه، وبين زعماء الانقلاب العسكري، تحرز تقدّمًا، في الوقت الذي تضغط فيه الولايات المتحدة والأمم المتحدة للتوصل إلى حلٍّ قريبٍ".

وذكر مصدرٌ آخر، إنّ السودان: "قد يشكّل قريبًا مجلسا سياديا جديدًا من 14 عضوًا، في خطوةٍ أولى من قبل الجيش يعيد فيها تشكيل مؤسساتٍ انتقاليةٍ جديدةٍ"‪.

وصرّح مدير مكتب البرهان، إنه تمّ الاتفاق مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، خلاله اتصاله الهاتفي بقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، على "الإسراع بتشكيل حكومةٍ جديدة"، وقال: "أمَّن الطرفان على ضرورة الحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي، وإكمال هياكل الحكومة الانتقالية، والإسراع في تشكيل الحكومة".

وفي بيانٍ لوزارة الخارجية الأمريكية، شدّد بلينكن على ضرورة العودة السريعة إلى "حوارٍ يعيد رئيس الوزراء حمدوك إلى منصبه، ويستعيد الحكم بقيادة المدنيين في السودان"، إلى جانب الإفراج الفوري عن جميع السياسيين المحتجزين منذ الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.

من جانبه، أكد البرهان لوزير الخارجية الأمريكي، أنه "ملتزمٌ بالانتقال إلى الديمقراطية، وإجراء انتخاباتٍ، مع التأكيد على ضرورة تشكيل مجلسٍ سياديٍّ، ومجلس وزراء جديديْن"‪.

وكان البرهان أكد لوكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك"،  بعد الإطاحة بحكومة الحمدوك، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، أنه: "قد يتم الإعلان عن رئيس وزراء من التكنوقراط في غضون أسبوعٍ"، وأكد أنه "لا يزال يحاول إقناع عبد الله حمدوك بالعودة، وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ". 

وأضاف البرهان أنّ " الحكومة الجديدة سيقودها تكنوقراط"، مؤكدًا أنّ الجيش "لن نتدخل في اختيار الوزراء". وقال: "سيختارهم رئيس الوزراء الذي سيتوافق عليه من مختلف قطاعات الشعب السوداني، ولن نتدخل في من يختاره".

 

ترتيباتٌ سياسيةٌ جديدةٌ


قد تتّجه الأمور في السودان إلى استعادة الشراكة، ضمن إطارٍ جديدٍ، بسبب التصدّع الذي حصل بين المكوّنيْن العسكري والمدني، وبالتالي قد يتمّ الاتفاق على تشكيل حكومة تكنوقراط، لا تضمّ ممثلين لأحزابٍ، على أن يُعاد تشكيل "لجنة إزالة التمكين"، على أسسٍ جديدةٍ كذلك، ومجلس سياديٍّ جديدٍ، بتوافقاتٍ جديدةٍ مختلفةٍ، بعيدًا عن الأحزاب، تمهّد للاتفاق على جدولٍ زمنيٍّ لإجراء الانتخابات، التي تؤسس لحكم ديمقراطيٍّ دائمٍ تجسيمًا لرغبة الناخبين، وتوافق العسكريين والمدنيين، والشركاء أيضًا. 

لكن الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية، عباس محمد صال عباس، يرى أكثر من سيناريو متوقّعٍ للأزمة السّودانية، السيناريو الأول، يتمثل في "عدم الاستقرار السياسي، والاضطرابات وتعثر الانتقال السياسي، في ظلّ غياب الإجماع والتوافق الوطني، بشكلٍ لا يساعد على تأسيس نظامٍ تمثيليٍّ يعكس الأوزان الحقيقية للقوى الحزبية والسياسية بالبلاد، ويساعد على قيام نظامٍ سياسيٍّ مستقرٍّ يجمع بين الشرعيتيْن، الدستورية والشعبية. وهو مرجّحٌ في ظلّ المعطيات الراهنة بالبلاد".

ويمكن أن يتحوّل الصراع، أساسًا بين المكوّنيْن العسكري والمدني، إلى سيناريو ثانٍ، وهو الأقرب إلى التحقق كذلك، فهو يتمثل في "قيام نظامٍ هجينٍ يسيطر عليه المكوّن العسكري، ويتمّ تدجين هذا النظام، ولكن مع معارضةٍ قويّةٍ متصاعدةٍ، خاصةً من المكونات التي جرى إقصاؤها عبر الانقلاب الأخير، أو مجموعاتٍ أخرى لم تستوعبها التسوية السياسية التي سيقوم عليها هذا النظام الحالي، أو تلك التي تبدو ساخطةً على الوضع الراهن".

ويرى الباحث السوداني، في إمكانية سيناريو ثالثٍ، يتمحور حول "حراكٍ جماهيريٍّ سيكون مستمرًّا، وسيكون هذا السيناريو أكثر ترجيحًا في المدى المنظور، إذ أنّ اللجوء إلى تحريك الشارع سيكون السّلاح الوحيد في يد بعض القوى السياسية، وكذلك المكوّن العسكري، وبالتالي الشارع، والشارع المضاد".

ولكنّ الشارع نفسه "بات عصيًّا على الإخضاع والترويض، وقد يكون خارج سيطرة الجميع، فظاهرة "الأيقنة"، أي رغبة المتظاهرين في التحول إلى أيقونات أو تحقيق الشهرة، جعلت الخروج والانخراط في الفعل الاحتجاجي سلوكًا فردانيًّا يعكس طموحاتٍ ورغباتٍ شخصيةً، خاصةً لفئات الشباب، وإن جرى في سياقٍ جمعويٍّ، أو ما يطلق عليها مليونياتٍ أو احتجاجاتٍ أو تظاهراتٍ".

وبالتالي، "سوف تتواصل أشكال الحراك الجماهيري، ولكن من دون ترجمتها في عمليةٍ انتخابيةٍ حقيقيةٍ تعكس إرادة الشعب، أو تفرز قوًى حزبيةً منتخبةً. كما سينتقل توظيف الشارع إلى دولاب الدولة من خلال محاولات توظيف العصيان المدني والإضرابات".

أما السيناريو الرابع، فقد أكد الباحث أنّ إكمال الفترة الانتقالية "سيكون بتجاذباتٍ هنا وهناك"، مع احتمال أن يتمّ التوصل إلى "ترتيباتٍ سياسيةٍ جديدةٍ".

هذه الترتيبات السياسية الجديدة، "يمكن أن يتبعها إجراء انتخاباتٍ عامةٍ، ذات مصداقيةٍ، بحيث تفرز قوًى سياسيةً، ذات أوزانٍ، تؤسّس بدورها لشرعيةٍ دستوريةٍ، تؤدي إلى استقرار البلاد". ويبدو هذا السيناريو "مستبعدًا"، وذلك بسبب "طموح الجيش في السّلطة، وغياب قوًى مؤمنةٍ بالديمقراطية".