شهد العالم منذ أزمنة بعيدة انتشار ظاهرة التمدين، ونقصد بالتمدين تزايد عدد السكان وتوسع مجالها الجغرافي وتكاثر عدد المدن، ومن آوائل العلماء الذين تطرقوا إلى هذا الأمر  عالم الاجتماع ابن خلدون ، بحيث أكد في مقدمته على أن الحضر و الأمصار أي المدن هي امتداد للبدو.

 وبالتالي أصبحت مجموعة من المراكز القروية مراكز حضرية، وهذا راجع لعدة عوامل أبرزها؛ الهجرة القروية إلى المدن، وتزايد في عدد السكان مما أدى إلى توسع المدن على حساب مجموعة من القرى والأراضي الزراعية.

 انتشرت ظاهرة التمدين بكثرة خلال القرن الثامن عشر، ومنذ هذه الفترة أصبحنا نتحدث عن تمدين حديث تطبعه مجموعة من المعايير؛ اقتصادية، واجتماعية، وعمرانية، وتكنولوجية، والعالم بأكمله عرف هذه الظاهرة إلا أنها اختلفت مابين الدول المتقدمة والدول النامية. 

على مستوى الدول المتقدمة نجد أن هذه الظاهرة جاءت نتيجة مجموعة من العوامل متمثلة في؛ المبادلات التجارية التي كانت تتم بين عدة دول، وتماس الأوروبيون مع العالم الإسلامي، ونقل الحياة الحضرية التي كانت تطبع العالم الإسلامي في زمن ازدهاره، وبعدها حدوث الثورة الفرنسية التي حررت فرنسا وفيما بعد غرب أوروبا من الفساد الإداري و الاستبداد ومن اللامساواة، إلا أننا نجد عاملين أساسيين برزت معهما ظاهرة التمدين الحديث بقوة، يتعلق الأمر بفائض الإنتاج الفلاحي الذي تحقق بعد الثورة الزراعية البريطانية التي امتدت بين القرن الخامس العشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، وبعدها الثورة الصناعية خصوصا مع اختراع الآلة البخارية خلال القرن الثامن عشر، ونتيجة العمل الجاد للأوربيين أدت هذه الثورات أي الزراعية و الصناعية إلى فائض في الإنتاج الزراعي و الصناعي، كما عرفت هذه الفترة إرتفاع في عدد السكان، لأن هناك قاعدة من أجل تحقيق نمو زراعي وصناعي لابد من عمال والساكنة هي الحل، فأصبحت السياسة الديمغرافية توازي السياسة الاقتصادية في تلك الفترة، ونتيجة لذلك عرفت مجموعة من المدن توسعا على حساب مجموعة من الأراضي الزراعية والقرى المجاورة، وهناك بعض القرى تحولت إلى مدن،  ومن بين الحلول التي نهجها الأوروبيون هو تخطيط لسياسة جديدة من أجل تصريف فائض الإنتاج الزراعي و الصناعي وتصريف الساكنة والبحث وجلب المواد الخام تمثل ذلك في نهج سياسة الإمبريالية، ونقصد بها استعمار الدول الضعيفة والمتخلفة التي تتوفر على مؤهلات طبيعية بالأساس من أجل جلب المواد الخام دون مقابل من طرف الدول القوية والمتقدمة، ويمكننا القول بأنها سياسة إجرامية تستخدم كل أساليب القوة والعنف من أجل تحقيق أهدافها. 

والاستعمار كان العامل الرابط ما بين الدول المتقدمة والدول النامية، بمعنى أن الاستعمار ساهم في بداية التمدين الحديث بالدول النامية، ففي هذه الفترة عانت الشعوب ضحية الدول الاستعمارية من عدة مشاكل أهمها الإقصاء المجالي والاقتصادي والاجتماعي، وأصبحت الدول الإمبريالية هي من تتحكم في مصير الشعوب، وأضحت تأخذ ممتلكات السكان الأصليين بالقوة والعنف، خصوصا سكان البوادي الذين يعيشون عن طريق أراضيهم الزراعية فأخذ المستعمر الأراضي منهم بالقوة، مما أدى بهؤلاء السكان إلى الهجرة من القرية إلى المدينة، فأصبحت القرية طاردة للسكان، وظروف السكان المعيشية ضعيفة جدا، ويعيشون الفقر، ومن هنا ستظهر لنا مشاكل عمرانية ستعاني منها الدول النامية والمتخلفة ومازالت آثارها متواجدة إلى حدود الآن وهي نشأة أحياء الصفيح والسكن العشوائي، فالمدن اكتضت بالسكان وبأحياء الصفيح والأحياء العشوائية، نتيجة لذلك فالمدن توسعت وأضحت المدينة تتجاوز حدودها، ووصلت إلى سقف الإشباع، لذلك توسعت على حساب الأراضي الزراعية، وأصبحنا نتحدث عن مدينة متعددة الأنماط الحضرية فنجد؛ المدينة العتيقة، والمدينة الأوروبية، والمدينة العشوائية، والاختلالات المجالية وصلت لأقصى حدودها، وبعد انتهاء الأوروبيون من عمليتهم الإجرامية "الإمبريالية" وبدأت الشعوب تستقل، ترك الاستعمار مشاكل عويصة بليغة الوثيرة، عمرانية، واقتصادية، واجتماعية، ومن هنا بدأت الدول النامية تبحث عن الخلاص من هذه المشاكل ونهجت سياسات متعددة، هناك من الدول من نجحت، وهناك من فشلت، وهناك من الدول مازالت فاشلة لحدود اللحظة، والسبب في ذلك معاناتها مع الهشاشة السياسية، بعدما كان الغريب يستغل ويخرب، أصبح أبناء الوطن من أخذوا السلطة هم من يخربوا ولايهمهم إلا المصالح الشخصية، لانعمم في هذا الأمر ولكن الأغلبية دائما تخفي الأقلية، ومن أهم السياسات التي نهجتها الدول النامية تحويل مراكز قروية إلى مراكز حضرية، وهذا ماشهدته معظم الدول في الشرق الأوسط، وأفريقيا، ومعظم دول آسيا، وأوروبا الشرقية، وأمريكا الجنوبية، ولكن هناك الكثير من القرى التي تحولت إلى مدن مازال يطغى عليها الطابع القروي، ويصعب تصنيفها هل هي مجال قروي أم حضري؟ ويمكن أن نسميها مناطق شبه حضرية، كما أن هناك من المدن التي صنفت كمدن متطورة وذكية مازالت تعاني من اختلالات عمرانية في هوامشها، مثلا، هناك من المدن التي مازالت تسود فيها العربات العشوائية ونقصد بها العربات المجرورة بالدواب، ونجد من يرعى الأنعام في شوارع وأحياء هذه المدن، ومازال السكن العشوائي سائدا وأحياء الصفيح مازالت متواجدة.

 يمكننا القول بأن التمدين الحديث الذي عرفته الدول النامية كان من المسببات الرئيسية في هذه الاختلالات، خصوصا العمرانية، والدول المتقدمة تجاوزت مشكل الزحف العمراني، ولا تعاني من مشاكل عمرانية بليغة الوثيرة، نتيجة نهجها لسياسات عمرانية مبنية على حكامة جيدة، والتي أعطت أكلها، وواجهت الزحف العمراني، باعتماد أساليب وتصاميم عمرانية معتمدة أساسا على توسع عمودي، فشيدت ناطحات السحاب والأبراج العالية، واعتمدت على بنايات ذكية متعددة الوظائف، ومازالت تبحث عن حلول إجرائية أخرى أكثر ابتكارا وإبداعا، وعلى الرغم من ذلك مازالت تعاني وتتخبط مع مشكل التغيرات المناخية، ونحن نرى ونلاحظ مدى خطورة المشاكل البيئية المهددة للإنسان وممتلكاته، والتي تسبب كوارث سكانية وعمرانية واقتصادية وهذا ما تشهده حاليا بعض المناطق في الدول المتقدمة من فينة إلى أخرى كألمانيا، وبلجيكا، والولايات المتحدة الأمريكية، والصين وما إلى ذلك.